لكل السوريين

شذرات حول المجردين من الجنسية والمكتومين بعد مرور 61 عاماً على الإحصاء الجائر

بتصرف وإعداد انعام إبراهيم نيوف

يتميز المجتمع السوري تاريخيا بغنى التنوع والتعدد في انتماء أفراده بالمعنى القومي و الديني و المذهبي، فهناك عدد من القوميات تشكل هذا المجتمع منها ( العربية، الكردية، السريانية ( كلدو- آشور ) إضافة للأرمنية والتركمانية ….)، وإذا كان الاختلاف واقعاً موضوعياً فإن العبرة في مسألة الأقليات تكمن في “العنصر الذاتي”، أي في إدراك أفراد هذه الجماعات باختلافهم وتمايزهم، وإدراك الجماعات الأخرى القريبة منها لهذا الاختلاف والتمايز، و بمستوى الوعي الاجتماعي و بنمط العلاقات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في مجتمعنا، وبالتالي فأن هوية الدولة ونمط علاقة السلطة مع المجتمع هي المحدد الأساسي في إمكانية الانتقال من المجتمعات المغلقة إلى المجتمعات المفتوحة أي من التذرر الاجتماعي والاحتقانات الاجتماعية البينية، إلى الاندماج الاجتماعي ، ومن الانشطار الوطني القائم بالقوة إلى الوحدة الوطنية التي يمكن أن تقام بالفعل، ورغم الهامش المتباين للسماح لهذه المكونات في التعبير عن نفسها وتعلم لغاتها ، إلا أن هذه المكونات لا يعترف بها دستوريا، إضافة لهيمنة الطابع الأيديولوجي السياسي على المسألة المتعلقة بالجنسية، وتعزيز الطابع الأيديولوجي القومي العربي في المناهج التعليمية، التي لا يتم ذكر هذه المكونات كمكونات متميزة ولها وجودها التاريخي في المنطقة، مما أسهم بتعزيز مناخ من الثقافة الأيديولوجية القومية العربية قائمة على التمييز العنصري، وبهذا المعنى تعيش هذه المكونات مركب التمييز والاضطهاد، إلا أن المواطنين الأكراد يعانون من إجراءات تمييزية / اضطهادية إضافية، مما ترك آثاره السلبية في العلاقة التاريخية التعايشية بين العرب والأكراد، مع العلم أنه ليس هناك إحصائيات دقيقة عن ذلك سوى، باعتقادنا، عند السلطة ولا تفرج عنها؟

ويتعرض الأكراد لأشكال مختلفة ومعقدة من الاضطهاد والتمييز مورس بحقهم، وربما تشكل حالة الأكراد المجردين من الجنسية والمكتومين، من أكثر الحالات انتهاكا سافرا لحقوق الإنسان وللدستور السوري وللمواثيق والعهود والاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان التي صادقت عليها سورية، حيث جرد آلاف من المواطنين من جنسيتهم بموجب الإحصاء الاستثنائي عام 1962 في محافظة الحسكة، والنسبة العظمى هم من المواطنين الأكراد، وبعد إعلان حالة الطوارئ، في 8 آذار 1963، تابعت الحكومات الجديـدة سيـاسة التمييز هذه، وقد نشر حزب البعث دراسة أعدها مسؤول الأمن السـياسي في المنطقة يخلص لاعتـبار الأكراد شعبا دون حضارة أو لغة أو أصل اثني وهو لا يملك سوى القوة الهدامة والعـنف اللذين يميزا سكان الجبال، وأما الخطة المقترحة، فتهدف إلى استئصال الوجود الكردي من سوريا في برنامج من 12 نقطة:

1- التهجير للداخل (عبر نقل السكان)، 2- التجهيل (حرمان الأكراد من التعليم والتأهيل العلمي)، 3- سد باب العمل (الحرمان من العمل والمساعدة)، 4- الإبعاد (تسليم المتمردين للبلدان المجاورة)، 5- فرق تسد (تحريض الأكراد ضد بعضهم)، 6- تطبيق الحزام العربي، 7- سياسة إسكانية للعرب، 8- عسكرة المنطقة، 9- إيجاد مزارع جماعية تابعة للدولة، 10- حرمان من لا يعرف العربية من حقوقه السياسية، 11- إرسال رجال دين عرب للمنطقة ونزع الصفة الدينية عن رجال الدين الأكراد أو نقلهم إلى داخل البلاد، 12- تنظيم حملة لمناهضة الأكراد في صفوف العرب.

ويعطي هذا التقرير صورة عن مدى خطورة الخطاب القومي في المنطقة وطابعه الاستئصالي الذي يطال المختلف بالمعنى القومي.

وفي بلاغ وزير الداخلية عام 1963 تم منع أبناء محافظة الحسكة من نقل قيودهم المدنية إلى المحافظات الأخرى أما المواطنين الأكراد من أبناء المحافظة بنقل قيودهم في 1964، صدر المرسوم 1360 الذي اعتبر كامل محافظة الحسكة منطقة حدودية مع أن عمقها يبلغ حوالي 200 كيلو مترا، وقد أعلنت الحكومة عن مشروع “الحزام العربي” بعمق 15 كم وعلى طول 280 كم على الحدود التركية، الأمر الذي يعني في الواقع العملي تهجير السكان الأكراد من قراهم.

وتحت عنوان تحقيقات في التطبيق الاشتراكي، نشرت جريدة “المناضل” الداخلية لحزب البعث في العدد الحادي عشر عام 1966 تقريرا رفعه رئيس مكتب الفلاحين في الحزب يتعامل مع الوجود الكردي باعتباره مؤامرة تسعى لخلق إسرائيل ثانية في المنطقة. وفي 1967، ألغت كتب الجغرافيا المدرسية أية إشارة للأقلية الكردية في سوريا، ومنذ ذاك التاريخ، يمارس موظفو الأحوال الشخصية ضغوطا على المواطنين لعدم إعطاء أبنائهم أسماء كردية.

وفي 11/11/1986 نشر محافظ الحسكة القرار رقم 1012/ص/25 الذي يمنع استخدام اللغة الكردية في أماكن العمل. في 3 ديسمبر ك1 1989، أصدر محافظ الحسكة محمد مصطفى ميرو رئيس الوزراء الأسبق القرار 1865/ص/25 ليؤكد هذا المنع ويضيف إليه الأغاني غير العربية في الأعراس والأعياد، في تعارض مع معطيات الدستور السوري نفسه وكافة الاتفاقيات والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.

فمن الواضح اتخاذ السلطات السورية إجراءات، تندرج في سياق التمييز العنصري بحق المواطنين الأكراد، وبما أن قضية حقوق الإنسان قضية لا تقبل التجزيء ولا المفاضلة فإن أن انتقاص أي حق من الحقوق هو انتقاص من الحقوق كلها، بما فيها حق الحياة. وأن انتقاص حقوق أي جزء من المجتمع مهما كان قليل العدد هو انتقاص من حقوق المجتمع كله. وإن المجتمع القابل للنمو والتقدم هو المجتمع الحر، ولا يكون المجتمع حراً إلا حين يكون جميع أعضائه أحراراً. والحرية مشروطة دوماً بالقانون والمسؤولية.

إن المواطنون الأكراد السوريون الذين تم تجريدهم بموجب الإحصاء الاستثنائي عام 1962، والذي بموجبه تم تجريد الآلاف من جنسيتهم السورية، في إجراء استثنائي، مما جعلهم عرضة، وبشكل مستمر، لكل أشكال التمييز والاضطهاد، والانتهاك السافر لحقوقهم الأساسية و للدستور السوري ولالتزامات سوريا الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، ومع مرور 45 على هذا الإجراء تضاعف عددهم مما كرس مشاكل اجتماعية واقتصادية وقانونية وسياسية ، حيث يقذف سنويا المئات من الأسر في مستقبل مجهول دون ضمانات ودون أمل لتتحول هذه القضية لبؤرة توتر لا يمكن أن نحدد نتائجها، وذلك بسبب ما تعانيه هذه الأسر من حرمان من أبسط الحقوق.

مع الانفصال، في أيلول 1961  ونتيجة لتعاطف المواطنين الأكراد في سورية مع أبناء قوميتهم في العراق في نفس العام، إضافة لعوامل اخرى ، ساد جو من انعدام الثقة بين الحكومة والمواطنين الأكراد ،فاتخذت السلطات السورية حين ذاك جملة من الإجراءات التمييزية بحق المواطنين الأكراد ، وقد عرضنا بعضا منها في الصفحات السابقة ، التي تشكل التعبير عن المناخ الأيديولوجي / السياسي الذي كان سائدا في تلك الفترة ، في هذا المناخ المحموم بالشك والريبة والعنصرية تجاه المواطنين الأكراد ، صدر عن رئيس الجمهورية ناظم القدسي ورئيس مجلس الوزراء بشير العظمة المرسوم التشريعي رقم 93  في تاريخ 23/8/1962 الذي يسمح بإجراء إحصاء خاص بمنطقة الجزيرة، بناء على المرسوم التشريعي رقم 1 تاريخ 30/4/1962 وعلى القرار الصادر عن مجلس الوزراء رقم 106 بتاريخ 22/8/1962، والذي أجري الإحصاء بموجبه في 5/10/1962 تحت ذريعة معرفة السوريين من غير السوريين , وقد تضمن هذا المرسوم :

الذي ينص في المادة الأولى على: يجري إحصاء عام للسكان في محافظة الحسكة في يوم واحد يحدد تاريخه بقرار من وزير التخطيط بناء على اقتراح وزير الداخلية.

والمادة السادسة تنص على أنه عند الانتهاء من عملية إحصاء السكان في محافظة الحسكة، تشكل لجنة عليا بمرسوم جمهوري بناء على اقتراح وزير الداخلية لدراسة نتائج الإحصاء , وتقرير تثبيتها في سجلات الأحوال المدنية الجديدة أو عدمه , وإعداد التعليمات لذلك .

أما المادة السابعة منه فقد نصت على “عند انتهاء عملية إحصاء السكان في محافظة الحسكة تشكل لجنة عليا بمرسوم جمهوري بناء على اقتراح وزير الداخلية لدارسة نتائج الإحصاء وتقرر تثبيتها في سجلات الأحوال المدنية الجديدة أو عدمه وأعداد التعليمات اللازمة لذلك”.

وقد جاء في المادة التاسعة: “تؤلف لجنة مركزية في محافظة الحسكة بمرسوم جمهوري مهمتها مراقبة أعمال لجان التسجيل المؤلفة بموجب المادة السابقة، واتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لإنجاز عمليات التسجيل في المحافظة المذكورة. وتمنح هذه اللجنة صلاحية عدم تسجيل كل من لا يثبت أنه من رعايا الجهورية العربية السورية وفقاً للقوانين النافذة، وتخضع لإشراف وتوجيه اللجنة العليا الإدارية

ونصت المادة العاشرة منه على “قبل تسجيل السكان في السجل المدني تقوم لجنة بالتحقيق والتثبيت بجميع الطرق والوسائل عن صحة البيانات المدونة في استمارات الإحصاء المدلى بها من قبل أصحاب العلاقة وخاصة بمطابقة هذه المعلومات على محتويات سجلات الأحوال المدنية الأساسية السابقة وعرض النتيجة على الجنة المركزية لتقدير التسجيل أو عدمه”.

وتعتبر المادة السابعة عشر من المرسوم كل تذاكر الهوية ملغاة  ويستبدل المرسوم كل قيود السجلات القديمة بالسجلات الجديدة.

ونتيجة لهذا الإحصاء الجائر الذي جرد عشرات الآلاف من جنسيتهم ومن حقوقهم الأساسية ، ووضعهم في فضاء اجتماعي وقانوني واقتصادي يتجرعون الاضطهاد والتمييز والحرمان من أبسط الحقوق الأساسية ،  انقسم  المواطنون الأكراد إلى ثلاثة فئات:

الفئة الأولى : أكراد  متمتعين بالجنسية السورية.

الفئة الثاني: أكراد جردوا من الجنسية وسجلوا في القيود الرسمية على أنهم “أجانب” و يعطى بطاقة تعريف حمراء ترخص له، و أن يسجل “كأجنبي” في السجلات الرسمية، ولا تخول له هذه البطاقة الحصول على جواز سفر أو المغادرة خارج القطر أو النوم في الفنادق.. وقد حصلت اللجان على الكثير من الوثائق التي تؤكد ذلك.

الفئة الثالثة : أكراد جردوا من الجنسية ولم يتم قيدهم في السجلات الرسمية نهائيا، وأطلق عليهم وصف “مكتوم” فيميز وجوده مجرد ورقة صفراء، وهو غير مسجل في السجلات الرسمية، ولا يملك أي وثائق رسمية باستثناء شهادة التعريف من المختار أو سند الإقامة، وبالتالي لا يتمتع بأي حق من حقوق المواطن.

واستكمالا لهذا التوجه ثمة قرارات إدارية غير منشورة منها مثلا “لا يجوز للعائلة الكردية ذات السجلات في محافظات أخرى نقلها إلى محافظة الجزيرة، بينما يجوز نقل سجل القيد من الحسكة إلى المحافظات الأخرى”.

ويصعب إدراك معاناة المحرومين من الجنسية بموجب المرسوم التشريعي 93 لعام 1962، دون العودة إلى مجمل الإجراءات والمراسيم والقرارات الإدارية التي جعلت من هذه الفئة جماعة محرومة من أهم حقوقها ليس فقط المدنية والسياسية والثقافية، بل أيضا الاجتماعية والاقتصادية.