لكل السوريين

كلمة حول الهوية الوطنية والعلمانية والطائفية

إعداد أنعام إبراهيم نيوف

الهوية هي قضية أساسية في تكوين وحياة الإنسان، ويمكننا القول إن معظم نشاط الإنسان يدور بين الهوية والمصلحة، وهما فعليا لا ينفصلان، فالمصلحة عمليا ترتبط بضرورات الإنسان ككائن حي، لكن وفق شرطه الإنساني، والهوية هي الصورة التي يتخذها الإنسان ببعده الإنساني، اللذين يميزانه عن كل الكائنات الأخرى، والبيئة المنظمة بشكل اجتماعي، تكون بذلك مجتمعا ودولة ووطننا، وهي بما هي كذلك لا تنفصل عن مصلحة الإنسان الإنسانية.

الهوية الوطنية الجامعة العليا هي الأساس الذي تبنى عليه الدولة الحديثة، التي تعتبر فيها وطنتيها هي هويتها الأساسية، ولم تعد وطنتيها صفة لازمة او مجموع لهويات أخرى، ولم تعد الدول على أساس عرقي أو قومي أو ديني أو إيديولوجي أو سلطاني، أو مزيج مما سبق.

أصبحت الهوية الوطنية العليا مقترنة بشكل مباشر بهوية الإنسان العليا، وتتموضع وفقا لأهميتها، شرط ألا يكون بينها وبين هويته الإنسانية والوطنية أي تناقض، وهذا لا علاقة لهما ببنية الدولة، ولا بالعلاقة بين الدولة والفرد، إلا على مستوى واجب ضمان الدولة للفرد حقه الفردي بالحفاظ على هذه الهويات والصفات، وما يترتب عليها من مفاعيل سلمية وغير متعارضة مع مصلحة المجتمع والدولة والفرد نفسه، وليس بصفتها كهويات أو كصفات خاصة ولكن بصفتها حقوق إنسانية محضة.

لكن العلاقة بين الفرد والدولة الحديثة، وعلى أساس الهوية الإنسانية ومبدأ المواطنة، فالدولة تتعامل مع الفرد المنتمي إليها كإنسان وكمواطن، وكل ما يرتبط بهذا البعد الإنساني الجوهري للفرد وينبثق عنه، هو أمر غير مشروط قطعا ولا محدود أو محدد بالدولة التي ينتمي إليها هذا الفرد، ولا يحق قطعا للدولة تحديد حقوق فردها الإنسانية، فهذه الحقوق مستمدة من مستوى أعلى من مستوى الدولة، وهو المستوى الإنساني المطلق، وهو الذي يعطي الشرعية الحقيقية للدولة بصفتها وسيلة شرطية لتحويل هذه الحقوق من مبادئ مطلقة إلى وقائع ومفاعيل فعلية، والتزام الدولة تجاه الفرد في هذه العملية وما يترتب عنه من التزام مقابل من قبل الفرد تجاه الدولة، هو ما يحدده مفهوم المواطنة الذي ينظم العلاقة بين الدولة والفرد، ويميز الفرد المواطن الذي يوجد بينه وبين هذه الدولة مثل هذا الالتزام.

الفرد في الدولة الحديثة هو إنسان ومواطنين ومواطنات، وعلاقته مع هذه الدولة مباشرة ولا تتأثر إيجابا أو سلبا بأي وسيط كلي أو جزئي آخر، والانتماء والالتزام فيها أيضا مباشران وغير مرهونين بأية انتماءات أو التزامات أخرى أيا كانت، فالفرد لا ينتمي إلى هذه الدولة ويتبادل معها الالتزام لا عن طريق دينه ولا قوميته، ولا طائفته أو عرقيته، أو حزبه أو إيديولوجية، أو أي شيء من هذا القبيل، وهو في هذه الدولة متساو كليا مع غيره من المواطنين الآخرين والمواطنات الاخريات بمعزل عن أن أي انتماء ديني أو طائفي أو سياسي أو طبقي وما شابه.

كلمة حول العلمانية والهوية: تعرف العلمانية على انها فصل الدين عن الدولة، أو الفصل بين الدين والمجال العام أو السياسي، أو فصل الدين عن مصادر السيادة. على رغم التفاوت بين هذه التعريفات، فإنها جميعها تدور حول موضوعة مركزية وهي الدين وحضوره في المجال العام باعتباره موضوع العلمانية.

في الحالة الطائفية يصبح الانتماء الديني أو المذهبي محددا للانتماء للجماعة، ما يحضر هنا ليس الدين بوصفه اعتقادا، بل بوصفه انتماء، لكن مسألة العلمانية لا يمكن تحديدها من دون العودة إلى آرائه حول المعتقد الديني وحضوره العام، وبمعزل عن أصوله الطائفية والمذهبية.

على هذا الأساس يمكن لنا الحديث عن حالات علمانية وطائفية في الوقت ذاته مثلاً، إيرلندا الشمالية: على رغم أنها علمانية ولا يوجد خلاف حول العلاقة بين الدولة والكنيسة، فإن النزاع يدور بين جماعتين مختلفتين طائفيا، البروتستانت والكاثوليك، حيث تتماهى الهوية القومية لكل جماعة مع هويتها الطائفية، وتدور الإشكالية العلمانية حول حضور الدين ودوره كمصدر للتشريع والقيم الأخلاقية والثقافية الناظمة لعمل الدولة.

إشكالية العلمانية مستقلة موضوعا عن إشكالية الطائفية لكن هذا الاستقلال ليس انقطاعا تاما، فهناك نوع من الاشتراط الذي يجمع المسألتين. فإذا قبلنا معنى مقيدا للعلمانية، وهو حياد الدولة تجاه معتقدات مواطنيها والمساواة بينهم بغض النظر عن اعتقاداتهم، تغدو العلمانية عندها شرطا يصعب الاستغناء عنه لحل المسألة الوطنية، كونها لا تكرس أساسا تمييزيا في الجماعة الوطنية.

لكن يمكن النقاش حول مدى اندراج هذا المعنى المقيد في العلمانية، حيث يمكن تخيل دولة تتبنى القيم الثقافية والأخلاقية المنبثقة من دين الغالبية من جهة، وتكون من جهة أخرى محايدة تجاه الاعتقادات الدينية لمواطنيها وتصون المساواة التامة بينهم بغض النظر عن اعتقاداتهم وإيمانهم. بتعبير آخر يكون النظام القيمي لدين الغالبية بمثابة مرجعية أخلاقية وثقافية من جهة، ومن جهة أخرى تكون الدولة محايدة تجاه معتقدات مواطنيها ومحققة للمساواة بينهم.

المسألة المركزية لحفظ الجماعة الوطنية هي عدم تكريس أي نوع من السياسات التمييزية على أساس الانتماء الديني أو الجهوي أو حتى الاثني، فيما تدور الإشكالية العلمانية حول حضور الدين ودوره كمصدر للتشريع والقيم الأخلاقية والثقافية الناظمة لعمل الدولة.

في مواجهة انهيار مجتمعات المواطنة وصعود هويات طائفية يرفع شعار العلمانية باعتباره حلا للمسألة الطائفية، العلمانية هي الحل، الذي يبدو انه شعار مزيف ولسببين أساسيين:

الأول: تطرح العلمانية كحل لمشكل لا صلة لها بالعلمانية نفسها، وهو تصدع الجماعة الوطنية التي تتمحور حول معضلة مغايرة لتلك الخاصة بالعلمانية.

الثاني: أن العلمانية نفسها قد تكون سببا في هذا التصدع، طالما أنها تخدم كشعار يرفع تحديدا ضد الانتماء الديني للغالبية ولاحقا ضد ثقافة محددة، فتصبح تبريرا لسياسة تمييزية.

وعلى الجهة الأخرى تكون الصورة مقلوبة، أي أن العصبية الطائفية المقابلة تقدم معركتها وكأنها معركة الإيمان في مواجهة كفر العلمانية. وهذا ما يتجلى مع العديد من حركات الإسلام السياسي، التي تكرس التمييز داخل الجماعة الوطنية انطلاقا من نظرتها للإسلام التي تدمج الدين بالهوية، فلا تعود الحضارة الإسلامية ذلك الإطار الثقافي الواسع لكل الذين عاشوا وتربوا داخله.

الربط المباشر بين العلمانية والطائفية، واعتبار الأولى حلا مباشرا للثانية، لا يكتفي وحسب بخلط مسائل متباينة بعضها ببعض، بل قد يخدم كعباءة أيديولوجية في تزييف وتغذية النزاع الطائفي والمقوِّض للجماعة الوطنية ذاتها، ان حل المسألة الطائفية يقوم على تكريس الجماعة الوطنية والحفاظ عليها وإعادة الاعتبار للديموقراطية الحقيقية والمواطنة التي تقوم على تحقيق المساواة بين المواطنين أنفسهم.