تقرير/ سلاف العلي
لم تنجو البيئة الساحلية من آثار الحرب الكارثية، حيث توسعت مؤخرا ظاهرة المفاحم كوسيلة لكسب الرزق والعيش، الأمر الذي خلق باب رزق للفقراء والمعدمين من جهة، وتجارة تدر الملايين لمن يتحكمون بمنافذ هذه المهنة، مستخدمين سطوتهم ونفوذهم، حتى لو أحرقوا العباد والغابات والبشر.
إنتاج الفحم بطرق تقليدية من أقدم الطرق التي عرفها البشر عبر تاريخهم، وفي قرى الساحل السوري لم يطالها أي تحديث رغم أضرارها البيئية، وتنتج المفحمة كميات هائلة من مركبات الهيدروكربونات الحلقية التي لها صلة مباشرة بالإصابة بمرض السرطان، كما تؤدي الى إنتاج كميات كبيرة من غاز أول وثاني أوكسيد الكربون وبخار الماء وكل هذه الغازات ضارة بالبيئة والصحة، أن مشكلة التفحيم هي مهنة غير قانونية، وقد تكون أحد أهم أسباب حرائق الغابات، لأن من يفحم عادة يقوم بذلك في أماكن بعيدة وصعبة الوصول كي لا يكتشف أمره، وأحيانا يترك الخشب في المشحرة إلى حين انتهاء عملية التشحير، وتكون المشكلة إذا هبت رياح وتطاير شرر من الأخشاب، التفحيم أنه مهنة غير قانونية، وقد تكون أحد أهم أسباب حرائق الغابات، لأن من يُفحّم يقوم بذلك في أماكن بعيدة وصعبة الوصول كي لا يُكتشف أمره، وأحياناً يترك الخشب في “المشحرة” إلى حين انتهاء عملية التشحير، وتكون المشكلة إذا هبت رياح وتطاير شرر من الأخشاب، للأسف فإن عملية التحطيب، بالإضافة إلى كونها تستهلك عددا كبيرا من الأشجار، فهي تمارس بشكل غير أخلاقي، فكثيرون يقطعون الشجرة بأكملها لسهولة العمل، في حين أن تقليمها يمكن أن يمنحهم الأخشاب المطلوبة أو الأوراق، ويحافظ على الشجرة في الوقت ذاته، مع العلم أن التحطيب الذي يتم ضمن ضوابط معينة يكون مفيدا للغابة، من النادر أن تخلو منطقة من قرى الساحل السوري من مفحمة، سواء كانت مرخصة أو تعمل بحماية أحد المتنفذين، ويخضع إنشاء المفاحم لقوانين التراخيص الرسمية التي تمنع تواجدها بالقرب من الأحراش بمسافة لا تقل عن واحد كيلومتر بعيدا عن حرم الأحراش والغابات المقدر بـ 25 مترا، وتشرف على موافقاتها مديريات الزراعة والبلدية والحراج، وجوار الموقع المراد إنشاء مفحمة فيه، كما يتطلب الحصول على ترخيص فتح سجل نظامي لمركز التفحيم مرقم ومختوم من الوحدة الإدارية بالمنطقة، تسجل فيه كميات الأحطاب الداخلة وكمية الفحم الناتجة منه، ويتم مراجعته والإشراف عليه من الوحدة التنظيمية في المنطقة والمخفر الحراجي المختص، يسمح لهذه المفاحم بإنتاج يومي يصل إلى أربعمائة كيلو غرام، إلا أن قلة قليلة منها تلتزم بهذا الرقم، حيث يتم إنتاج ما يقارب الطن يوميا في بعض المفاحم، كي تكون العملية مربحة اقتصاديا، وتشكل المفاحم خطرا على الغابة نظرا لانعدام الشروط الفنية في عمليات التفحيم التي يمكنها بسهولة أن تتسبب في اندلاع حرائق، خاصة بغياب عمالها عنها، إلا أن مصلحة المفحمين الرئيسية هي اﻹبقاء على الغابة وليس حرقها عمدا، لأنها مصدر رزقهم.
السيد جودت من ريف جبلة قال لنا: خلال عمله في تقطيع الأخشاب وتفحيمها، كان يحرص قدر الإمكان على منع حدوث حرائق في المناطق المجاورة، وكان يسعى بشكل دائم إلى العثور على عمل جديد، وبمجرد حصوله عليه ترك هذه المهنة، وقرر تخصيص جزء من وقته للبيئة محاولاً نشر الوعي بها وسبل الحفاظ عليها.
الوضع الاقتصادي دفعه للدخول في مهنة التحطيب، هو نفسه الذي دفع غالبية شباب المناطق القريبة من الغابات إلى ذلك، لأنها مصدر الدخل الوحيد لهم، والعمل في هذا الأمر يحتاج وقتا وتعبا
السيد نهاد وهو من احدى القرى في ريف بانياس يرتدي بدلة عسكرية ويقوم بتقطيع أغصان شجيرات القطلب والزعرور والسنديان الحراجي، وجذوع أشجار صغيرة، لتكون حصيلته من 20 إلى 30 كيلو حطب أخضر، يتحرك بعدها مستخدما دراجة نارية بدون لوحات، ناقلا الحطب عبر طريق ترابي ضيق، وصولا إلى المفحمة حيث يبيع حطبه بحوالي 100الف ليرة سورية، هو وآخرون، أفراد من جيش غير مرئي، يقدر بالآلاف، يقلبون البراري والأحراش في الساحل السوري مقطعين الأشجار وأغصانها لبيعها إلى مفاحم بعضها غير مرخص، تحول الحطب إلى فحم، وسط هؤلاء جميعا هناك جيش آخر من الأشخاص النافذين القائمين على حماية تجارة تدر ملايين الليرات ، دون أن تتأثر بالأوضاع العامة.
يقول السيد نهاد: لا أعرف لمن يباع الفحم الناتج ولا يهمني ذلك، ويؤكد أن لا أحد يتعرض له أثناء عمله وأن المفحمة تؤمن له الغطاء اللازم للعمل.
السيد هيثم أحد العاملين لصالح مفحمة أخرى في ريف مدينة جبلة يقول: نحمل بطاقات مرور على الخطوط العسكرية ونمر دون تفتيش، ونبيع الفحم إلى تجار آخرين يتولون توزيعه على المحلات والمطاعم والمقاهي.
ببانياس حيث مكان مليء الأدغال ، وتخترقه بعض المنشآت السياحية والمطاعم، أنشأ السيد خلدون المفحمة المرخصة الخاصة به، يوضح خلدون أن إنتاج الفحم يتم بإحدى طريقتين: طبيعية، وتعتمد على حرق غير مكتمل للأخشاب الطبيعية، أغصان اﻷشجار والجذوع الصغيرة، وتنتج الفحم الطبيعي، وأخرى صناعية تطحن فيها بقايا الأخشاب والأوراق ثم تحرق بشكل غير مكتمل أيضا، مما يؤدي إلى إنتاج الفحم الصناعي، ويختلف الفحم الطبيعي عن نظيره الحجري بأنه، أسرع اشتعالا وأقصر زمنا، ويستخدم الطبيعي في شي اللحوم وتدخين الأراجيل وفي التدفئة المنزلية، والمفحمة هي المكان المخصص لصناعة الفحم، وهي أشبه بقبة خشبية مصنوعة من الأغصان، ولتشييدها تغرز بعض الأغصان القوية في الأرض وترتب بقية الأغصان حولها، وتوضع حولها الحجارة للتثبيت، كما يدخل أنبوب معدني تمرر من خلاله شعلة النار أي الجمر، لعملية إشعال الحطب في البداية، وبعد الانتهاء من البناء توضع بقايا أوراق الأغصان لعزل المشحرة عن المناخ الخارجي، كما تضاف بعض الألواح المعدنية المسطحة وطبقة من التراب للعزل، وبالنسبة إلى آلية العمل، فيتم إدخال بعض الجمر المشتعل مسبقا، من خلال الأنبوب المعدني، كي تبدأ عملية التفحيم، والتي تستمر عادة عشرة أيام تقريبا، وأساس التفحيم هو احتراق الحطب ببطء على حرارة الجمر من دون إشعال النار، وفي النهاية يزال كل ما وضع فوق المشحرة وترش ببعض الماء، ولا يسحب الفحم فورا بل يترك يومين. ويبلغ حجم الفحم الناتج ثلث حجم الخشب المستعمل، ولا تكلف العملية أية نفقات إضافية عدا النقل، وتنتج المفحمة، وجبة كل ثلاثة أيام للكتلة الواحدة بما يقارب 300 كيلو فحم لقرابة طن من اﻷخشاب الخضراء، لذلك نلجأ إلى تجهيز أكثر من كومة او كتلة، ويبدأ العمل في حرقها بحيث لا نتوقف عن اﻹنتاج، نشتري الحطب بأسعار تتغير حسب نوع الخشب، فإذا كان حطب ليمون أو زيتون فسعر الكيلو 20 الى 30 الف لير، أما إذا كان سنديان وبلوط وزعرور فسعر الكيلو40 الى 50 الف ليرة، ويعبأ الإنتاج بأكياس نايلون أو خيش أو كراتين حسب طول القطعة الناتجة، ونبيع في المفحمة عادة، ولا نقوم بعملية نقل ﻷن التجار يأتون إلينا، ويبلغ سعر الكيلو بين 80 الى 100 الف ليرة حسب نوع الفحم، وغالبية المشترين تجار نعرفهم ونثق بهم، ولا نبيع لأي كان إلا بعد التأكد من قدرته على نقل البضاعة إلى مكانها، وبالرغم من أن هذه المفحمة مرخصة، إلا أن المشاكل لا تنتهي، بسبب الرشاوي التي يجب دفعها للحواجز أو للحراجية أو للبلدية أيضاً، وتضاف جميع هذه الأتاوات والرشاوي إلى سعر الكيلو الواحد بحيث تبلغ تقريبا نصف سعره بعد الإنتاج.
تجري عملية نقل الفحم الناتج عبر طرقات ودروب يستحيل وصول السيارات إليها، ولذلك يلجأ هؤلاء إلى استخدام الدواب أو الدراجات النارية التي يسهل حركتها، يتم نقل إلى أقرب نقطة تسليم، وتنقل هذه إلى مستودعات قريبة بانتظار تجميع كميات أكبر، ثم تنقل بعدها عبر سيارات من نوع فان مغلقة إلى مراكز تجميع أكبر، تمهيدا لنقلها إلى بقية المدن، يستخدم بعض هؤلاء رخص نقل فحم رسمية ﻷشخاص آخرين في حال كان عملهم غير مغطى من قبل أحد المتنفذين.
بريف بانياس وريف جبلة يقوم مجهولون بتمويت الأشجار، في الغابات الصنوبرية المزروعة هناك منذ ربع قرن تقريبا، حيث يتم حز جذور الأشجار بالقرب من سطح التربة ثم تغطيتها بالتراب بعد سقي الشجرة بمواد كيمياوية مثل الكاز، وفي غضون أسبوع إلى اثنين تموت الشجرة ويكون قطعها بالتالي ممكنا بنظر القائمين على الغابات أو الضابطة الحراجية.
منذ سنوات، انتقلت ظاهرة الأركيلة إلى الريف بعد أن كانت لقرون حصرا على المدن. اليوم بات من غير الطبيعي عدم امتلاك أركيلة في البيت، وبات التنفيس عن الهموم يمر عبر تدخين اﻷركيلة، وزيارة واحدة لأي مقهى أو حتى المرور في أي شارع في أوقات المساء يوضح الانتشار الكبير لهذه الظاهرة وحجم الجمهور المتعلق بها، خاصة من النساء والمراهقين، بالمتوسط، فإن30% من السكان مدخنون، وعلى اﻷقل15% من مدخني اﻷركيلة، وباحتساب وزن الفحم الذي يحتاجه رأس أركيلة واحد وهو بالمتوسط 100 غرام، يكون استهلاك السكان حوالي25 طن يوميا، ويستخدم الفحم كذلك للشواء في حوالي 150 مطعم في مدينة جبلة وبانياس، وباستهلاك يومي يبلغ بالمتوسط لكل منها 70-80 كيلو غرام، وبهذا فإن الكمية المستهلكة تبلغ حوالي 100الى 110 طن يوميا، ويعمل في المفحمة عادة بين أربعة إلى خمس أشخاص، وأحيانا أكثر حتى يصل العدد إلى عشرة، ولكن هناك أربعة على اﻷقل، وغالبية هذا الفحم المنتج يأتي من الجبال الساحلية، ونسبة ضئيلة من المطاعم والمقاهي تستخدم الفحم الصناعي المستورد والمصنوع من خشب جوز الهند أو مواد أخرى، ويذكر انه اختفى الفحم بأنواعه من محلات مدينة اللاذقية، على إثر حملة قاسية من الجمارك السورية طالت مصادرة الفحم وإغلاق متاجره في المدينة أو من يبيع المادة فقط، دون أن تطال المفاحم، ليعود بعد أقل من أسبوعين بسعر جديد كان ضعف السعر السابق.
إن تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد جراء الحرب وتراجع قيمة الليرة السورية يحد من عمليات استيراد الفحم بالعملة الصعبة، ويجعل السوق معتمدة بشكل شبه كامل على الفحم المنتج في الداخل، وان نسبة كبيرة من صنوبريات قابلة للاشتعال بنسبة كبيرة لاحتوائها على زيوت راتنجية سريعة الاشتعال، وتطاير قشور الساق والمخاريط أثناء احتراقها لمسافات بعيدة مع الرياح متسببة بانتشار الحريق بسرعة كبيرة في وقت قصير جدا.
السيد غياث الطبيب والناشط البيئي في جبلة يقول: تبقى أغصان وأوراق ساق الصنوبر الأقرب إلى الأرض يابسة، وتعتبر وقودا أوليا بأي حريق وتشتعل مباشرة وبكثافة، ولهذا يجب ان تستمر مديرية الزراعة والحراج بتقليمها وإزالتها سنويا، إلى جانب طبيعة الغابة الخاصة، فإن المزارعين القاطنين جوار الغابات يقومون بتحريق أراضيهم من العشاب اليابسة في أوقات حرجة كموسم قطاف الزيتون.
السيد جمال مزارع من ريف بانياس قال: أنه في السنة الماضية أشعل النار في بقايا زراعية في أطراف أرضه فأدت لحريق جزء من الغابة المجاورة، واتصل بالإطفاء وحضروا فورا لإطفاء الحريق الذي اتى على أكثر من ثلاثة دونمات، يتيح التفحيم والتحطيب والتقطيع الحصول على دخل جيد مقارنة بغيره من الأعمال اﻷخرى المتوفرة، هناك منافسة شديدة من أشخاص يقومون بالتفحيم والتحطيب في أماكن صارت شبه معروفة ولكن لا أحد لديه القدرة على ردع المتنفذين، وسلاحهم جاهز في أي وقت، وبسبب ضعف خبرتهم، وان احتمال تسببهم بالحرائق وارد جدا، وهنالك اشخاص معروفين للجميع بما يفعلون في أحراش ووديان المنطقة، ودورهم لا يقتصر فقط على التفحيم، فالتحطيب مع ارتفاع سعر الوقود وعودة شبح فقدانه عدة مرات رفع سعر طن الحطب ، وهم قادرون على إيصاله إلى أي مكان عبر شبكة من العملاء المنتشرين في كل المناطق، ولا يستفيد المفحمون من قطع مورد رزق لهم يمكن أن يستمر سنوات، فأي أرض تحترق توضع إشارة حريق على صحيفتها العقارية، وحدهم القادرين على إزالة تلك الإشارة قادرين على افتعال الحرائق الكبيرة، فأكثر من خفير في الضابطة الحراجية تعرضوا لمواقف مشابهة أو طلبوا نقلهم من عملهم ، يذكر إن من واجب الخفير منع التعديات على الغابة واﻷحراش، وأي غطاء نباتي أخضر، بما في ذلك قطع اﻷشجار ضمن الملكيات الخاصة، واقتياد المخالفين إلى أقرب مخفر بقوة السلاح، فملكية الغطاء النباتي كلها للدولة، الخفير كان سابقا يصادر اﻷدوات وهوية الشخص المعني ويكتب تقريرا رسميا بالمخالفة ويسلمه لدائرة الحراج التي تقوم بتحويل التقرير إلى الجهات المختصة، الشرطة المدنية واﻷمن الجنائي، الذين يقومون بالتحقيق في اﻷمر ومن ثم تحويل الشخص المعني إلى القضاء.