الانتخابات التشريعية الفرنسية.. اليسار يقلب المعادلة وتداعيات جديدة أمام الفرنسيين

بعد جولة الانتخابات التشريعية الأولى التي جرت آخر الشهر الماضي، بدا اليمين المتطرف أقرب ما يكون إلى السلطة بعدما حقق أكبر نسبة من الأصوات في هذه الجولة وسط مخاوف الفرنسيين والأوروبيين من هذه النتيجة، حيث قفز حزب “التجمع الوطني” الذي يمثل أقصى اليمين إلى موقع الصدارة، وحصد نحو 33% من الأصوات، مقابل نحو 28% لتحالف اليسار الذي يعرف بالجبهة الشعبية الوطنية ويضم الاشتراكيين واليسار المتطرف والخضر.
أما معسكر يمين الوسط “معاً من أجل الجمهورية” الذي يقوده الرئيس إيمانويل ماكرون فقد تقهقر إلى المركز الثالث وحصل على 20% من أصوات الناخبين.
وتسببت هذه النتائج بحالة من الهلع في فرنسا، بسبب ما اعتبره الكثيرون خطراً محدقاً في حال وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، وهو ما عبرت عنه وكالة الصحافة الفرنسية بالقول “إن الفرنسيين باتوا أمام رهان كبير”.
لكن الوضع انقلب رأسا على عقب في الجولة الثانية، حيث خالف تحالف اليسار الفرنسي جميع التوقعات بعدما تصدرت “الجبهة الشعبية الجديدة” نتائج جولة الانتخابات الثانية متقدمة على معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون، بينما هبط اليمين المتطرف الذي تصدر الجولة الأولى إلى المركز الثالث.
جبهة جمهورية
بعد شعورها بخطورة صعود اليمين المتطرف، سارعت أحزاب الوسط واليسار وغيرها إلى التغلّب على انقساماتها، وأبرمت عدة اتفاقات سريعة لتحول دون استمرار تفوق اليمين المتطرف، وتمثل أبرز مظاهر هذه الاتفاقات في انسحاب أكثر من مئتي مرشح من معسكري اليسار والرئيس ماكرون من الدوائر التي كانت ستشهد منافسة بين ثلاثة مرشحين لتعزيز حظوظ زملائهم في التغلب على مرشحي التجمع الوطني.
وشكّلت ما أطلق عليه “جبهة جمهورية” لمواجهة اليمين المتطرف والحيلولة دون تمكن رئيسه من أن يصبح أول من يتولى رئاسة الحكومة من أقصى اليمين منذ الحرب العالمية الثانية.
وأسفرت تحركات الأحزاب الفرنسية خلال الأيام السبعة عن حدوث انقلاب كبير انتقل بفرنسا من اليمين إلى اليسار.
فالنتائج الأولية لجولة الإعادة أشارت إلى تقدم ائتلاف اليسار إلى المركز الأول وتقدم معسكر يمين الوسط إلى المركز الثاني مقابل تراجع كبير لليمين المتطرف.
ويضم هذا التحالف الذي تكون حديثا حزب “فرنسا الأبية” الذي يوصف بأنه يساري متشدد، إضافة إلى الحزبين الاشتراكي والشيوعي وأنصار البيئة فضلا مجموعات صغيرة ذات ميول يسارية.
تحالف العار
أثارت هذه التحالفات غضباً عارماً في صفوف أقصى اليمين، واستخدم رئيس التجمع الوطني عبارات حادة ضد التحالف الذي نفذته الأحزاب لقطع الطريق على أقصى اليمين، ووصف ما حدث بأنه “تحالف العار الذي حرم الفرنسيين من سياسة إنعاش”.
وأكد بارديلا أن التجمع الوطني ما زال “يجسّد أكثر من أي وقت مضى البديل الوحيد” وتعهّد بأن حزبه لن ينزلق نحو ما وصفها بتسويات سياسية ضيقة وأكد أن “لا شيء يمكن أن يوقف شعباً عاد له الأمل”.
ومقابل حالة من الصمت والحزن بمعسكر أقصى اليمين، انفجرت صيحات الفرح في تجمعات أنصار تحالف اليسار، وأشار زعيم فرنسا الأبية، إلى أن على الرئيس ماكرون أن يعترف بالهزيمة في الانتخابات.
في حين اعتبر ماكرون أن كتلة الوسط لا تزال “حيّة جداً” بعد سنواته السبع في السلطة.
وقالت الرئاسة الفرنسية إن ماكرون يعكف حاليا على تحليل نتائج الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية، وسينتظر وضوح الصورة كاملة قبل اتخاذ القرارات اللازمة.
وأضافت الرئاسة الفرنسي في بيان “سيحترم الرئيس، باعتباره الضامن لمؤسساتنا، خيار الشعب الفرنسي”.
تداعيات عدم الاتفاق
لم تسفر الانتخابات الفرنسية عن حصول أي كتلة على غالبية مطلقة في الجمعية الوطنية، وبالتالي لن تتمكّن أي كتلة من تشكيل حكومة فرنسية جديدة، مما يفرض على القوى السياسية الفائزة أن تتوصل إلى اتفاقات وتحالفات تمكّنها من تشكيل الحكومة.
واعتبر الرئيس الفرنسي أن “أحداً لم يفز” في هذه الانتخابات التي تصدر نتائجها اليسار دون أن يحصل على غالبية مطلقة في الجمعية الوطنية.
وفي رسالة إلى الفرنسيين نشرتها صحف محلية، طلب ماكرون من القوى السياسية “بناء أغلبية صلبة”، ودعا “جميع القوى السياسية إلى الانخراط في حوار صادق ومخلص لبناء غالبية صلبة تكون بالضرورة ذات تعددية”.
وإذا لم يتم التوصل إلى ذلك، ستدخل فرنسا في حالة مجهولة، حيث ينص الدستور على أن ماكرون لا يمكنه الدعوة إلى انتخابات برلمانية جديدة قبل مضي عام على سابقتها، وفي هذه الحالة، ينص الدستور على أن يختار ماكرون من سيشكل الحكومة، ولكن أيا كان من سيختاره ستواجه حكومته تصويتاً في الجمعية الوطنية للفوز بثقتها.
وقد يحاول ماكرون إبعاد الاشتراكيين والخضر عن الائتلاف اليساري لتشكيل ائتلاف يسار الوسط مع كتلته، ولكن لا يوجد ما يشير إلى تفكك وشيك للجبهة الشعبية الجديدة.
وثمة خيار آخر يتمثل في تشكيل حكومة تكنوقراط تدير الشؤون اليومية ولكنها لا تشرف على التغييرات الهيكلية، وهو ما سيتطلب موافقة البرلمان ودعمه لهذه الحكومة.
يذكر أن الانتخابات الفرنسية المبكرة جاءت نتيجة قرار الرئيس ماكرون حل الجمعية الوطنية بعد الخسارة الكبيرة التي لحقت بمعسكره في انتخابات البرلمان الأوروبي مقابل تقدم لليمين المتطرف في هذه الانتخابات.