لكل السوريين

قصر البرتينا النمساوي.. لغة الضاد وبيكاسو أمسية الشاعرين علي الحسن و فانيسا هو هنشتاين تصوير بليغ للوحات بيكاسو الفنية بلغة شاعرية

عبد الكريم البليخ

احتضن متحف وقصر ألبرتينا الذي يتوَّسط العاصمة النمساوية فيينا أمسية شعرية للشاعر السَّوري علي الحسن والشاعرة النمساويَّة فانيسا تون هوهنشتاين، وهي نصوص ترجمها عن الألمانية الشاعر الحسن ابن مدينة الرقة الفراتية.

الأمسية بدأت على شكل صدمة، فما أن دخل الجمهور الصالة، حتى وجد الشاعران على الأرض أشبه بحالة سبات ليصار تدريجياً إلى الحركة البطيئة والحديث حوارياً في مشهد تمثيلي ممسرح باللغة الألمانية وصولاً إلى حالة النهوض وتحية الجمهور إيذاناً ببدء الأمسية الشعرية التي جاءت على شكل مقاربات وحواريّة تناولت رسومات الفنان الإسباني الشهير بابلو بيكاسو تزامناً مع مناسبة مرور خمسين عاماً على رحيله.

لوحات شعريَّة جديدة فاجأت الحضور بألقها والكيفية التي ألقيت بها، وهذا ما شدّ الحضور إليها، فالنصوص التي ألقاها الشاعر الحسن بلغته العربية الفصيحة والشاعرة النمساوية باللغة الألمانية وتبادل الأدوار استدعت من الحضور الإصغاء والمتابعة وبشغف كبير.

تضمنت النصوص والقصائد محاكاة وقراءات فنية لعوالم بيكاسو بلغة شاعرية وقف عندها الشاعر والجمهور.

حجرة.. ورقة.. مقص

اللافت في الأمسية التي قدمت لها التونسية بثينة عليلة خبيرة المتاحف أن الجمهور يتابع الانتقال من لوحة إلى أخرى، تبعاً لخيار الشاعرين؛ بمعنى أن الجمهور يغيّر من وضعية جلوسه باتجاه اللوحة المختارة ليتمعَّن بها، ويتأملها ويتفرَّس بها وهو يسمع النص الذي يحاكي اللوحة، وهذا ما كان في حد ذاته تحدٍ كبير للشاعر نفسه، وكسر القوالب التقليدية المعروفة في الأمسيات..

أما من بين عناوين اللوحات المختارة، فوقع اختيار الشاعرين على لوحات متنوّعة أبدعها بيكاسو عن النساء، منها: (امرأة بالقبعة الخضراء)، (امرأة، تمثال ومزهرية)، (المخمورة النائمة)، (امرأة عارية، طائر وعازف الفلوت)، (الحياة الصامتة مع الغيتار).

المعروف عن الشاعر علي الحسن، أنه مارس العمل الصحافي والنقد الأدبي والفني لسنوات طويلة، وهو المثقف المعروف بفصاحة لغته، وصدر له في مجال الشعر (حجرة ورقة مقص)، وفي النقد (حجارة البئر المهجورة)، ولديه ركام من الكتابات المخطوطة بانتظار الإفراج عنها وتضمينها في كتب منها: (على الدرجة أربعين، تنحنح.. وغيرها)، وتتناول كثيراً من الكتاب والشعراء والفنانين في حوارات سبق أن التقاهم.

الأمسية الشعرية جاءت بحلة جديدة لافتة، وأداء فيه كثير من الغرابة جعل من الحاضرين متابعة كل خطوة للشاعر، وكل لفظ تلفظ فيه ومتابعتهم للشاعرين بأسلوبهم وحركاتهم، وتنقلهم في قاعة الرسم الكبيرة التي تشتمل على لوحات الفنان بيكاسو وتصوير كل لوحة من لوحاته، والتحدث عنها وبعمق بلوحة شعرية بأسلوب وطريقة جميلة.

 

التكعيبة.. والمليونير

أبدع الشاعر الحسن الذي كما قلنا، قام بترجمة النصوص من اللغة الألمانية إلى العربية، منها (طمأنية، ألم، جداً، أمغرمة أنا بك؟ صداقة مزيّفة وغيرها..) حيث تبلورت الصورة مع ما يجيده الرسام من فن مبتكر، وهو الفنان المتفرد في رسوماته، وشهد الجميع بمكانته وإبداعاته القيمة، وكان التصوير الإبداعي يرافق مع طرحه الشاعرين عن حياة الفنان الكبير مستعرضين ذلك كل بلغته الشاعرية وربطها بالمكان.

وعُرف بيكاسو كيف يُحدث ثورة في الفن بفضل أفكاره المتجددة؛ حيث كان مثالاً يحتذى في ابتكار نمط رسم أصيل وجديد، وهو “الرسم التكعيبي”، وعرف كيف يدافع عن آرائه، وفرضها بطريقة فنية. ومنذ نعومة أظافره، ولع بيكاسو بالفن، وتميزت بداياته ومهارته في أعماله الواقعية الأولى بأنها تُمثِّل صوراً شخصية مثل لوحات تُصوِّر أفراد أسرته.

عرف بيكاسو بشخصيته الفضولية والصريحة وكثيرة القلق، وناصر الحياة البوهيمية (الفنان الذي يميل إلى اتخاذ سلوك أو العيش بنمط حياتي غير مألوف)، واستطاع كسب الكثير من المال من موهبته الفنية، حتى صار مليونيراً.

 

الضاد.. والصندوق الأسود

أما بالنسبة لمتحف ألبرتينا الذي احتضن الأمسية الشعرية فهو من أهم وأكبر المتاحف في العالم لاحتوائه مجموعات كبيرة من الرّوائع الفنّيّة التي تعود إلى فنّانين عالميّين مثل بيكاسو، وكوكشكا، وكليمت وسيزاني وغيرهم من الفنّانين. ويضم إحدى أكبر وأهم غرف المطبوعات في العالم، مع ما يقرب من 65 ألف لوحة، بالإضافة إلى الأعمال التخطيطية الحديثة، كما يضمّ المتحف معارض مؤقتة، كمعارض التصوير الفوتوغرافي والهندسة المعمارية. ويقدم روائع من الفن والتي تغطي 100 عام من تاريخ الفن والتطورات الرئيسية من الفن الكلاسيكي إلى الفن المعاصر، كلوحات الباستيل وجواتشز لمونيه ورينوار وديغا وسيزان وتولوز لوتريك؛ حيث يركز قسم من المعرض علي الفنانين الانطباعيين الفرنسيين، وهناك قسم للتعبيريين الألمان، وبعض الفنانين المعاصرين.

الجدير ذكره أنه ولأول مرة في تاريخ متحف ألبرتينا تلقى فيه قصائد باللغة العربية، ولم يسبق للمتحف أن احتضن أي شاعر عربي من قبل، وألقى قصائده بلغة الضاد، فكان الشاعر السوري علي الحسن أول من ألقى شعراً في المتحف العريق، وهنا أحد نصوص الشاعر بعنوان: (الصندوق الأسود):

لا تعبثي بالصَّندوقِ الأسود

كلُّ الأسرارِ المقدسةِ هناك

لا تحاولي فتحه من قبَّة قميصِكِ

أو من عنقِ الرَّحم

حنطي لحظةَ الرَّعشةِ في ثلاجةِ المَوتى

وتأملي غبارَ الطلعِ في الخارطةِ الوراثية

كم سرعةُ ارتطامِ الذكرياتِ لديكِ بحبلِ السُّرة؟!

.

لا تعبثي بالصَّندوق الأسودِ

لا تحاولي فتحَهُ كقطعةِ حلوى

أو علبةِ سردين

أو كلغمٍ مُعدٍ للانفجار

.

يا فوضى المَرايا

امسحي الحبرَ عن قميصِ التَّاريخ

وأزرارِه النَّافرة

انقعي الأحماضَ في المتاحف الكبرى

واكتبي وصايا الكيمياء

على ألواحِ الطّين

.

يا امرأة من الورقِ المُقوى

دعكِ الآن من الطائرات الشِّراعية

ومن الأسماكِ في حوضِ الرّمل

أنا صديقُك الفيل

تعالي نلعب:

ورقة.. حجرة.. مقص