لكل السوريين

إنها الجائحة كورونا؛ لكن أين تكمن المعضلة؟

سيهانوك ديبو

لأن السلطة جموح؛ فيجب أن تُحَدَ بسلطة أخرى. وهذا أصل النظرية في فصل السلطات عند مونتسكيو في مؤلفه الشهير روح القوانين 1748. بالعلم أن هذه النظرية ما زالت المعتمدة الأساس في كتابة جميع الدساتير العالمية إلى اللحظة؛ سوى أنها لم تستطع أن تكون السبب في تحصين المجتمعات من الحروب والأزمات، وبالتالي من الجائحات. والغلو في قيمة القانون واصلاً بها الأمر والحال كي تبدو مثل الموت الذي لا يستثنى منه أحد، أي لا أحد فوق القانون؛ لم يستطع إنقاذ البشرية التي تعرضت منذ (روح القوانين) إلى عشرات الحروب ومئات الأمراض؛ آخرها الفيروس كورونا الذي يبدو في أنه لن يوفِّر أحداً من شره أو من شر تداعياته. بالرغم من أنه سينتهي في لحظة فتك معينة.

بعد هذا الكتاب بثلاث سنوات طور الاقتصادي الفرنسي فنسنت دي جورناي، أهم مبدأ للاقتصاد السياسي للرأسمالية، مطلقًا عبارة laissez-faire, laissez-passer أو «دعه يعمل؛ دعه يمر». يشرح آدم سميث في كلاسيكيته الشهيرة «ثروة الأمم»، مشيراً إلى أن قوى العرض والطلب تسمح لاقتصاد السوق بتنظيم نفسه، وأن مستويات الأسعار والأجور والعمال تعدل نفسها تلقائيًا عن طريق ما سماها بـ«اليد الخفية»، وحسب سميث، يعمل الاقتصاد وفقًا لثلاثة قوانين طبيعية، الأول: هو أن جميع الأشخاص يجب أن يتصرفوا وفقًا لمصلحتهم الذاتية، والثاني: هو أن كل شخص هو أفضل من يعرف مصلحته الذاتية، أما الثالث: فهو أن كل شخص يعمل وفقًا لمصلحته الذاتية، سيضيف تصرفه هذا إلى الرفاهية العامة للسكان. رغم ذلك فإن الأمم كانت تتعرض دائماً لهزات وأزمات اقتصادية عظيمة؛ بالذي حدث في الكساد العظيم 1929 وصولاً إلى العام 2008 وحتى اللحظة.

لنتصور بأنْ كان المبدأ هو (دعهم يعملوا؛ دعهم يمروا) بدلاً من عدِّ الفردية المحضة والتركيز المفرط على المصلحة الذاتية. وقتها هل كان بمستطاع البشرية اختزال الكثير من الدمار المتعرض له؟ دون أن يفهم بأنه عود على بدء الاشتراكيّة المشيّدة وبأنها بديل الرأسمالية المتوحشة. كما يجري الحديث اليوم في أن جماعات كثيرة تتوقع أن تقفز الصين –على اعتبارها الاشتراكية الشيوعية- إلى المرتبة الأولى بدلاً من أمريكا- الرأسمالية الصناعية والمالية، وبأن الأنظمة الشمولية المركزية خيارٌ أفضلَ من الأنظمة اللامركزية التي تعتمد نموذجاً (لا ديمقراطياً) من الديمقراطية؛ من ضمنها ديمقراطية الأصابع/ العددية. في الحقيقية لا يوازي تواضع مثل الاعتقاد سوى الذين يدافعون عن أمريكا في أنها الباقية دون منافس، وكأن بقاء أمريكا متبوع لكثرة القائلين بها. بالأساس لا يمكن اعتبار الصين منذ إصلاحات دينغ شياو بينغ 1978 -1992بلد شيوعي وإنما دولة رأسمالية. الذي فعلته بكين في أنها غلّفت الخطاب الشيوعي في الشأن السياسي ضمن إطار رأسمالية الدولة بدلاً من رأس مال الشركات الخاصة التي تحرك سياسات الدول في الحكومات الغربية.

إذاً أين تكمن المعضلة؟

يبدو بأن دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة ما يزال مصراً المضي بحمائية المحافظ نيو ليبرالي وفق المقاربة الأولى نفسها التي أشار إليها صاحب (ثروة الأمم). الاصرار فقط على الذاتية؛ ربما ما يجعل مستشارو ترامب إطلاق مصطلح/ مبدأ التباعد الاجتماعي كحل أنجع للجائحة كورونا. أي الفرد الذي منها يسلم.

أي الانطلاق من المالتوسية التي نفسها من كينونات الاصطفاء الطبيعي. أي الارتهان إلى النيتشاوية ضمن الحفاظ على السلسلة النقية في معادلة تحقيق البقاء للأقوى. علّه من المفيد في هذه اللحظة الحرجة اللجوء إلى أقصى حالات التضامن الاجتماعي المحلي وربطه بالإقليمي فالعالمي ضد الجائحة. بخاصة أن الحجر لا يعني بأي شكل من الأشكال ولا يؤدي بأي معنى من المعاني إلى التباعد الاجتماعي، الأخير الذي يختلف حتمياً عن المباعدة الجسمانية. وإلّا لماذا يتم إدراج قرصنة المطارات في الاستيلاء على المساعدات كجريمة دولية مُقرة في علم الجناية الدولية؟

المشكلة تكمن بأن الدولة التي وظيفتها الأساسية في علم السياسة المتعارف بتوفير الأمن، الحفاظ على المجتمع، التصدي لكل ما يؤدي إلى افنائه؛ هي إضافة إلى أساسيات أخرى كوظائف الدولة. وحينما تعجز عن هذه الأساسيات؛ لا تصبح وجودها مثل عدم وجودها وحسب؛ إنما يستوجب –بداية- النظر في وجودها بالأساس.

ومن المهم البحث مرة أخرى عن بنى سياسية جديدة تدار المجتمعات وفقها. وبأن انتقال البشرية من مجتمع الدولة القومية وحتى الوطنية إلى مجتمع الدولة متعددة الوطنيات وحتى مجتمع اللا دولة يبدو بالأمر المشروع الذي يستحق الخوض فيه، والأهم أو الأكثر أهمية الوصول إلى صيغ مجتمعات تكون فيها السلطة بالهرم المقلوب. أي أن المجتمعات تدير نفسها ذاتياً وفق أكبر عدد ممكن من المؤسسات الكونفيدرالية؛ تتحول فيها الحكومات إلى دور سلطة تمثيلي بدلا من تنفيذي وقضائي وتشريعي.

أما تأسيس هذا النموذج الإداري فهو بالضرورة عائد بدوره إلى معايير: الإيكولوجيا الجذرية، الحق الأمومي/ دور المرأة الريادي، السياسة الأخلاقية.

وهذه خطوات أولى مخففة لوطأة النقل البشري القسري من المجتمع الطبيعي إلى المجتمع الوضعي، مهدِّئة من تعظيم شأن المدن التجارية والصناعية على حساب القرية الزراعية، فلا يفهم هنا بأنه البدء بهدّ المدن إنما العودة إلى القرى الزراعية.

دون ذلك؛ على الأغلب؛ سيكون المطروح على طاولة مراكز القرار الدفين للسياسة الدولية ما بعد هذه الجائحة الاكتفاء من شكل الدول التي أخفقت من تأدية مهام السياسة الأساسية المعروفة المعلومة، أو إنهاء الخارطة الجغرافية السياسية المعروفة في الكتب المدرسية بغية الانتقال إلى نظام المدن العملاقة.

الأخيرة التي ستكون بالفعل السبب في إرجاع الإنسان عبداً؛ لكن ليس لبني قومه الإنسان مرة أخرى؛ إنما للآلة/ الإنسان الصناعي والذكاء الاصطناعي.

هذا العالم يجب أن يتغير؛ ربما بالفعل حان وقت تغييره؛ لكن ليس إلّا تحقيقاً لإنسانية الإنسان، من دون تسليع القيم الإنسانية.

دعهم يكدحون؛ دعهم يعيشوا بأمان.