لكل السوريين

في ذكرى الاستقلال.. ترفرف أرواح الشهداء في سماء الوطن وتتصاعد تساؤلات مؤرّقة

تحقيق/ لطفي توفيق

في مثل هذا اليوم من كل عام، تنبعث ذكرى عزيزة على قلوب السوريين، يفوح منها عبير البطولة والكرامة معطراً بدماء الشهداء وعرق المجاهدين الذين صنعوا الاستقلال، وأجبروا المستعمر الفرنسي على الجلاء عن التراب السوري بتضحياتهم، وبالتفاف مختلف أطياف الشعب السوري حولهم، فكانت هذه الملحمة الوطنية الخالدة التي تعطرها أزهار نيسان لتبقى أول وأنبل وأجمل مناسبة عاشتها سوريا الحديثة في ظل حرية الوطن وكرامة المواطن.

ولتبقى دماء الشهداء أمانة في أعناق الاجيال المتلاحقة، ويبقى الحفاظ على الاستقلال في مقدمة واجباتهم الوطنية.

بدأت ملامح الاستقلال قبيل الاحتلال، عندما تصدى الشهيد يوسف العظمة للغزاة في معركة غير متكافئة، وقبل أن يعانق جسده ثرى ميسلون أوصى بالمقاومة المستمرة ضد الاحتلال.

وكان العظمة يعلم أن جيشه لن يتمكن بعديده القليل، وعتاده القديم من التصدي للجيش الفرنسي بعديده الكثير وعتاده الحديث وطائراته ومدفعيته، ولكنه صمّم على مواجهته لكي لا يذكر التاريخ أن الغزاة دخلوا دمشق دون مقاومة.

ولعل ذكرى هذه الملحمة الوطنية تنشّط ذاكرة السوريين، كل السوريين، ليعلموا أن الحفاظ على وطنهم، والحرص على استقلاله، واستقلال قراره ما يزال أمانة في أعناقهم، رغم كل الكوارث والمآسي التي حلّت به وبهم.

إعلان الثورة  

بعد محاولة اغتيال الجنرال غورو في 23 حزيران 1921، وفرار أدهم خنجر إلى الأردن، عاد ليتابع نضاله ضد الفرنسيين الذين علموا بعودته، فتوجه إلى القريّا معقل سلطان باشا الأطرش لطلب الحماية والمساعدة.

فألقت القبض عليه دورية عسكرية فرنسية، أمام دار سلطان الذي كان خارج قريته، ولم يستجب الفرنسيون لمحاولات إطلاق سراحه، فقرّر سلطان المواجهة ورابط مع رفاقه على الطريق التي سينقل الفرنسيون أدهم خنجر منها إلى دمشق.

وعندما قدمت ثلاث سيارات مصفحة لنقله، اشتبكوا معها وحطموا إحداها وأسروا الثانية.

وردت السلطات الفرنسية على هذه العملية بعنف، وقصفت طائراتها قرية سلطان وهدمت منزله، وأوقعت ضحايا من النساء والأطفال، وصادر الفرنسيون الغلال والماشية وأحرقوا المحاصيل الزراعية، وفرضوا غرامات باهظة على الأهالي.

ونتيجة لهذه الممارسات، وبالتنسيق مع الوطنيين في دمشق وثوار المنطقة الوسطى والشمال السوري، أعلن سلطان باشا الأطرش الثورة على فرنسا في شهر تموز عام 1925، تحت شعار “الدين لله والوطن للجميع”، وجاء في بيان إعلان الثورة “إلى السلاح أيها السوريون، هذا يوم ينفع المجاهدين جهادهم، والعاملين في سبيل الحرية والاستقلال عملهم.

لقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارة بين وطننا الواحد، وقسمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرية الدين والفكر والضمير وحرية التجارة والسفر حتى في بلادنا وأقاليمنا.

إلى السلاح ايها الوطنيون إلى السلاح تحقيقاً لأماني البلاد، إلى السلاح تأييداً لسيادة الشعب وحرية الأمة، إلى السلاح بعدما سلب الأجنبي حقوقكم واستعبد بلادكم ونقض عهودكم، ولم يحافظ على شرف الوعود الرسمية”.

معركة الكفر

انطلق سلطان باشا الأطرش ورفاقه إلى قرى الجبل لحثهم على الجهاد ضد الفرنسيين فحلقت فوقهم طائرتان فرنسيتان لبث الرعب في صفوفهم، فأسقط الثوار إحداهما وقبضوا على طيارها، وتوجهوا إلى مقر البعثة العسكرية الفرنسية في صلخد وأحرقوه.

فانطلقت حملة فرنسية من قلعة السويداء بقيادة الكابتن نورمان، للقضاء على الثوار وإعادة هيبة السلطة الفرنسية، وتمركزت على هضبة صخرية في قرية الكفر.

فهاجمها المئات من المجاهدين وكان معظمهم يحمل السلاح الأبيض، في حين كانت القلة منهم تحمل بنادق ألمانية وعثمانية قديمة.

وحال هجوم الثوار الصاعق وهول المفاجأة، بين الفرنسيين وأسلحتهم، واستمرت المعركة حوالي ساعتين قضى الثوار خلالهما على الحملة وقتلوا قائدها، بينما استشهد فيها أربعون من الثوار من بينهم شقيق سلطان الأطرش.

وذكر الجنرال أندريا في مذكراته أنه نجا من معركة الكفر خمسة من الجنود الفرنسيين فقط.

وغنم الثوار في هذه المعركة الأسلحة والذخيرة الفرنسية التي استخدموها في المعارك اللاحقة، وعززت معركة الكفر ثقة المواطنين بقدرتهم على المقاومة، وجعلت من الثورة أمراً واقعاً.

معركة المزرعة

بعد معركة الكفر، أرسل المندوب السامي الفرنسي في سوريا حملة عسكرية تعدادها ثلاثة عشر ألف جندي بقيادة الجنرال ميشو للقضاء على الثورة وإخضاع السويداء.

وفي الثالث من شهر آب عام 1925، تمكن أقل من ألف مقاتل من هزيمة الحملة، وحطموا أسطورة الجيش الفرنسي، وسطروا أروع ملاحم البطولة في تاريخ مقارعة الاستعمار.

وكان الشبان يكمنون للمدرعات الفرنسية، حتى إذا اقتربت منهم قلبوها بأكتافهم وقتلوا سدنتها بخناجرهم ومسدساتهم، وأحرقوها.

وقال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في مذكراته “جرت ملحمة بالسلاح الأبيض لم يجر مثلها منذ ذكر الواقدي خبر الفتوحات”.

ووصف الجنرال اندريا قائد الحامية الفرنسية في الجنوب السوري هذه المعركة بقوله “انقلبت موقعة المزرعة الى كارثة عظيمة، كانت هذه الهزيمة حملاً ثقيلاً علينا وضربة قاسية لنفوذنا واحترامنا في الشرق”.

وقال الجنرال ميشو قائد الحملة، أمام المحكمة العسكرية في باريس “لم يدر في خلدي أن يتمكن مقاتلون عزل من السلاح من الانتصار على فرقة عسكرية خاضت غمار الحرب العالمية يبلغ تعدادها ثلاثة عشر ألف جندي مجهزين بالأسلحة الحديثة من مدافع ودبابات وطائرات، مستغلين الاشتباك المباشر وعنصر المفاجأة”.

ثورة دمشق

اتفق الدكتور عبد الرحمن الشهبندر مع قيادة الثورة في السويداء على امتداد الثورة إلى دمشق فتوجهت حملة منهم برفقة عدد من مجاهدي دمشق والتحق بهم عدد كبير من الثوار من مختلف المناطق السورية.

تعرضت الحملة لخسارة كبيرة في منطقة “العادلية” قرب الكسوة، وتمكن عدد من المجاهدين من الوصول إلى دمشق، وحاضوا عدة معارك مع الفرنسيين في الغوطة كانت أولها معركة “جوبر” حيث اصطدم المجاهدون مع حملة فرنسية وهزموها.

وبدأ الثوار بمحاولات إحكام الطوق على دمشق قبل اقتحامها، وفي هذه الأثناء علموا بوجود الجنرال “ساراي” في قصر العظم، فهاجمه الثوار ووقعت معركة حامية احترق على إثرها القصر، وهرب ساراي إلى مقر قيادة الأركان، فقامت القيادة الفرنسية بدكّ دمشق بالمدافع لمدة ثلاثة أيام هدمت خلالها العديد من شوارعها وبيوتها الأثرية، واستسلمت المدينة تحت وطأة القصف العنيف، واضطرت لقبول الغرامات الباهظة التي فرضها المفوض السامي.

وبعد المواجهات العديدة مع القوات الفرنسية، وخوفاً على دمشق من التدمير انسحب الثوار منها إلى منطقة جبل القلمون، حيث تابعوا الثورة منها.

ثورات الشمال

تزامناً مع ثورة الشمال، أعلن الزعيم ابراهيم هنانو الثورة ضد الفرنسيين شمال غرب سوريا، وحث في بيان له عموم أفراد الشعب للمشاركة في الثورة، واتفق مع الشيخ صالح العلي على التنسيق والتعاون بين الثورتين.

وبعد أن فقدت هذه الثورة مقوّمات النجاح، انسحب هنانو مع أربعين مجاهداً باتجاه البادية بهدف الالتجاء إلى شرق الأردن.

وبعد إقامة قصيرة في عمّان انتقل إلى فلسطين ليغادر منها إلى أوروبا، ولكن سلطات الاحتلال البريطاني اعتقلته وسلّمته إلى الفرنسيين الذين أحالوه إلى محكمة عسكرية فرنسية في حلب.

وكانت ثورة الشمال قد خاضت مجموعة من المعارك مع القوات الفرنسية في السويدية وفرزلي وأنطاكية والحمام الرامي‏ واسقاط والسيجري، وفي معركة جسر الشغور التي اشترك فيها ثوار من جبل الزاوية وقصير وأنطاكية تمكن الثوار من تحرير المدينة وألحقوا بالعدو خسائر مادية وبشرية فادحة وغنموا خلالها كميات كبيرة من العتاد والسلاح والمؤن.

وتواصلت معارك الثوار ضد المحتلين الفرنسيين في مختلف قرى ومناطق الشمال السوري.

ثورة الساحل

كانت ثورة الساحل بقيادة الشيخ صالح العلي واحدة من أوائل عمليات المقاومة المسلحة ضد القوات الفرنسية منذ أن احتلت الساحل السوري.

ودعا العلي إلى عقد اجتماع مع وجهاء المنطقة البارزين في مدينة الشيخ بدر حذّر خلاله من أن فرنسا احتلت ساحل سوريا بهدف فصل المنطقة عن باقي أراضي الدولة، وحثهم على الثورة وطرد الفرنسيين من الأراضي السورية.

ونسق مع ثورة إبراهيم هنانو في حلب وانتفاضة تلكلخ التي قامت بها قبيلة الدندشي والثورة في أنطاكية التي قام بها صبحي بركات.

فهاجمت القوات الفرنسية الشيخ العلي وأوقعت إصابات وخسائر ضخمة بين صفوف قواته، ولكنه قام بهجوم مضاد طرد خلاله القوات الفرنسية من القرى التي احتلتهاً.

وبعد انتصارات الثورة السورية الكبرى التي استمرت حتى ربيع عام 1927، قامت فرنسا بإرسال آلاف الجنود إلى سورية ولبنان مزودين بأحدث الأسلحة، مما أدى إلى قلب الموازين لصالحها، ومكّنها من إعادة السيطرة على كثير من المدن.

وتحوّل الجهاد إلى الحلبة السياسية والدبلوماسية حيث استمرت النخب السورية في مقاومة المستعمر الفرنسي في الداخل، وفي أروقة الأمم المتحدة إلى أن تحقق الاستقلال، ورحل آخر جندي فرنسي عن سوريا في 17 نيسان عام 1946.

صفحات مشرقة ورسائل

بعد دخوله إلى سوريا زعم الجنرال غورو أن فرنسا جاءت إلى المنطقة لحماية المسيحيين فيها.

فقصد فارس الخوري الجامع الأموي بدمشق، وصعد المنبر بعد صلاة يوم جمعة، وقال “تدّعي فرنسا أنها احتلت سوريا لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، وأنا كمسيحي أطلب الحماية من شعبي السوري، ومن هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله”.

فحمله المصلون على أكتافهم، وخرجوا بمظاهرة حاشدة جابت شوارع دمشق القديمة وردّد خلالها المسيحيون والمسلمون لا إله إلا الله.

وخلال الاحتفال بالاستقلال، جاء في خطاب الرئيس شكري القوتلي “إننا نطوي اليوم صفحة الجهاد في سبيل استقلالنا لنفتح صفحة الجهاد لصيانته، وقد تكون صيانة الاستقلال أشق من الظفر به”.

وجاء في وصية قائد الثورة السورية الكبرى “اعلموا أن الحفاظ على الاستقلال أمانة في أعناقكم بعد أن مات من أجله العديد من الشهداء وسالت للوصول إليه الكثير من الدماء.

فاصبروا صبر الأحرار، ولتكن وحدتكم الوطنية وقوة إيمانكم وتراصّ صفوفكم هي سبيلكم لردّ كيد الأعداء وطرد الغاصبين وتحرير الأرض”.

وبعد مرور كل هذا الزمن.. لابد من التساؤل:

هل قرأت الأجيال اللاحقة رسائل هذه الملحمة كما يجب.

وهل رصّت هذه الأجيال صفوفها لردّ كيد الأعداء وطرد الغاصبين وتحرير الأرض.

وهل عملت الأجيال الحالية على استمرار النضال لتحقيق الاستقلال بمعناه الأوسع، استقلال الوطن والإرادة والقرار.

تساؤلات برسم التأمل.. والتبصّر.. والتداول.