في الذكرى الثالثة عشرة للثورة السورية.. ما زال السوريون يأملون باستعادة بريقها والخروج من فخّ العسكرة
تحقيق/ لطفي توفيق
يستقبل السوريون عاماً جديداً من عمر ثورتهم بمزيج من الإحباطات الناجمة عن النتائج التي تمخّضت عنها، والأمل باستعادة زخمها وبقائها ماثلة في وعي جزء لا يستهان به منهم.
فمنذ انطلاقتها، ساد اعتقاد بأن الثورة ستدفع كل القوى السورية المعارضة إلى التضامن والعمل المشترك في سبيل تحقيق أهدافها المتمثلة في التخلص من الاستبداد وإعادة ترتيب الأمور على الصعيد السياسي والاجتماعي لتأمين مقوّمات العيش الحر الكريم لكل السوريين ولأجيالهم القادمة.
غير أن الأمور لم تسر في هذا الاتجاه كما كان السوريون يأملون، بسبب الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها وما زالت ترتكبها، المعارضة السورية المشتتة، والوقوع في فخ عسكرة الحراك السلمي، والرهانات على وضع مفاتيح حل الأزمة السورية بيد القوى الخارجية، مما ساهم في تغييب إرادة المعارضة، وأعاق سعيها نحو إجراء مراجعة نقدية لإحداث تغيير في علاقاتها مع جمهورها، ومع القوى المؤثرة في توجهات الرأي العام الإقليمي والدولي.
ومازال الأمل يغمر قلوب السوريين ببقاء الثورة فكرة مستمرة، رغم الجمود الذي يسيطر على الوضع السياسي فيها، وانسداد آفاق الحلول في المدى المنظور، وتراجع الاهتمام الإقليمي والدولي بالشأن السوري لانشغاله بالأحداث التي تجري في أوكرانيا وفي غزة ومناطق أخرى.
وإذا كان الواقع الحالي لا يسمح باستعادة زخم الثورة بعد الانتكاسات الكثيرة التي تعرضت لها، إلّا أنها ما تزال حية في وعي السوريين وتنتظر الظرف التاريخي المناسب لتنطلق من جديد بطريقة أكثر نضجاً وأكثر قدرة على تقييم كل مرحلة، وتصويب الأخطاء والثغرات التي قد تقع فيها، وإعادة النظر المستمرة في الجانب التنظيمي والسياسي الذي أدى إلى تحوّلها عن مسارها.
على الصعيد التنظيمي
قبل انطلاق الثورة، بدأت محاولات الحراك السياسي والفكري في سوريا، وتعددت المنتديات والمنابر الفكرية والسياسية وتفاعل السوريون مع هذه الأنشطة بشكل لافت، ولكن سرعان ما تم قمعها قبل أن تتمكّن من إيجاد تيار سياسي مؤثر في الشارع السوري.
وفي شهر تشرين الأول عام 2005، وقّعت مجموعة قوى وأحزاب سياسية وشخصيات وطنية مستقلة بياناً باسم ائتلاف “إعلان دمشق”.
وحاولت تحويله إلى مؤسسة من خلال تشكيل مجلس وطني، وانتخاب أمانة عامة له، وعقد أول اجتماع لتنفيذ ذلك أواخر عام 2007 في أحدى ضواحي دمشق، حضره 132 عضواً اختارتهم الأطر التي يمثلونها، لكن الائتلاف تعرض لأزمة داخلية بسبب نتائج الانتخابات التي حصلت في الاجتماع وأدت إلى خروج حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل الشيوعي من الائتلاف.
وبعد أقل من أسبوع على انعقاد هذا الاجتماع تم اعتقال عدد من أعضاء الأمانة العامة للإعلان ومن الكوادر المؤسسة له، وغادر آخرون البلاد، مما انعكس سلباً على بنيته وإمكانية تطويره،
ومنعته حملات القمع المتتالية من تحقيق إنجازات مهمة مما ساهم في تشتت قوى المعارضة قبل الثورة وخلالها.
ومع انطلاق الحراك الشعبي السلمي لم تتمكن المعارضة بكل أطيافها، من تشكيل قيادة موحدة، أو قيادات متجانسة لقيادة الحراك الجماهيري العفوي، وبلورة مطالبه والسير به في الاتجاه الذي يمثل تطلعات السوريين.
على الصعيد السياسي
بدأ الحراك الشعبي في سوريا بمطالب إصلاحية، وبعد ردود الفعل العنيفة التي تعرض لها بدأ بالتحوّل التدريجي إلى المطالبة بتغيير النظام.
وبدأت الأحزاب والكوادر السياسية المعارضة تنخرط في الحراك الشعبي الذي تحوّل إلى ثورة.
وبدأ قادة غربيون يؤكدون على ضرورة تنحّي الأسد كمدخل لأي حل سياسي، وبهذا الاتجاه ذهبت المبادرة الثانية لجامعة الدول العربية أوائل عام 2012، حيث طرحت تنازل الرئيس عن صلاحياته لنائبه ليقود مرحلة انتقالية تنتهي بإصلاحات حقيقية.
ثم جاءت وثيقة جنيف التي أصبحت مرجعية الحل السياسي في سوريا، وتبنّتها قرارات دولية، ومن أهمها قرار مجلس الأمن رقم 2254.
ونصّت الوثيقة على تشكيل “هيئة حكم انتقالي”، من النظام والمعارضة والمجتمع المدني لتقود مرحلة انتقالية تنتهي بحكم ديمقراطي.
ولكن الأحزاب والكتل السياسية فشلت في تشكيل قيادة موّحدة أو منسجمة أو متفاهمة، لتوجيه مسار الحراك الشعبي في الداخل السوري، والقيام بدور مؤثر وفاعل في مناقشة وصياغة المبادرات الإقليمية والدولية التي تتعلق بمصير السوريين وبلادهم.
تحوّل في مسار الثورة
التفت معظم قطاعات الشعب السوري ومكوناته حول الثورة منذ بدايتها، وتحوّل معظم الشباب إلى قيادات ميدانية قامت بتشكيل لجان التنسيق المحلية التي أسست لتشكيل الهيئة العامة للثورة،
وانضم العديد من الكوادر السياسية والحقوقية والثقافية المعارضة إلى الحراك الشعبي بمختلف المحافظات السورية.
ولكن غياب الدور القيادي الفاعل لقوى المعارضة سهّل على الإخوان المسلمين تفعيل وتوسيع حراكهم بالداخل السوري خلال أشهر الثورة الأولى بدعم من دول عربية وإقليمية، في مقدمتها النظام التركي.
كما دخلت التنظيمات السلفية المتشددة مسار الثورة تحت عنوان نصرة الحق وأهله، مما أحدث نقطة تحوّل في مسارها، ولكن سرعان ما بدأت تتكشف أهداف قادة هذ المجموعات عندما قاموا ببسط نفوذهم على مناطق عديدة، ونشر فكرهم السلفي وفرضه على الناس بالقوة.
ثم شكّل ظهور داعش على الساحة السورية ضربة قاسية للثورة، حيث شتت قواها ووسع رقعة جبهاتها وزادها تعقيداً، وفتحت سيطرة التنظيم على رقعة جغرافية واسعة من سوريا وإقامة إمارة عليها، شهيّة بعض قادة الفصائل المعارضة والمجموعات المتطرفة لإقامة سلطتهم في أماكن تواجدهم.
جمود مبرمج
أسهمت إخفاقات المعارضة على الصعيد التنظيمي والسياسي، في ترسيخ حالة الجمود السياسي على الساحة السورية التي عملت القوى الإقليمية والدولية على فرضها واستمرارها.
فعلى الصعيد المحلي، تحول قبضة السلطات السورية الحديدية على مناطق سيطرتها دون قيام أي شكل من أشكال مقاومة الواقع السياسي والاقتصادي المزري.
وأدخل انصياع فصائل المعارضة المسلحة التام لهيمنة النظام التركي وقرارته، الشمال السوري في معادلة الصراع الإقليمية والدولية.
وعلى الصعيد الإقليمي، بدأ الانزياح العربي نحو النظام السوري منذ نهاية عام 2015، ثم تصاعد تدريجيا ليتحول إلى مطالبة بعض الدول العربية بإعادة تأهيله من أجل القيام بمهامه العربية.
وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية وراء هذا التحول، فقد بدأ خجولاً ثم تحول إلى مسار منظم بعد المقاربة الأردنية للتعامل معه، وصولاً إلى إعادته لمقعده في جامعة الدول العربية.
وعلى الصعيد الدولي، اتخذ قرار غربي غير معلن منذ عام 2015 برعاية أمريكية بضرورة تحجيم الصراع في سوريا بعد أن حقق هدفه المتمثل بتدمير البلاد وإضعاف القوة العسكرية السورية إلى حد كبير.
وأخذت الأزمة السورية تتحول إلى مجرد “ملف إنساني” تبحث من خلاله التسويات السياسية والعسكرية التي تصب في مصلحة الدول المهيمنة على هذا الملف.
دور القوى الخارجية
بعد وقوع معظم أطياف المعارضة بفخّ عسكرة الثورة، تحوّل الحراك السلمي وعمليات قمعه إلى حرب مدمرة شكلت مدخلاً لإعادة رسم تحالفات المنطقة وتوازناتها، وتحوّلت سوريا من لاعب أساسي في الشؤون الإقليمية إلى ساحة صراع إرادات إقليمية ودولية.
وتعددت أشكال التدخل في المشهد السوري بين تدخلات سافرة، وأخرى غير مباشرة، لأهداف ومصالح متباينة بين محاولات لإنهاء الصراع، وأخرى لإطالة أمده، في صورة بالغة التعقيد ومتعددة الأطراف والأهداف، حيث كان العديد من الدول الأوروبية كفرنسا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وكل من تركيا ودول الخليج يسعون للإطاحة بنظام الأسد، ومن ورائهم تقف الولايات المتحدة التي تسعى إلى تطويق الروس منذ تفكك الاتحاد السوفيتي.
وعلى الجانب الآخر تدعم إيران وحلفاؤها في العراق ولبنان الإبقاء على الوضع السوري كما هو، وتقف وراءهم روسيا التي تهدف إلى تعزيز نفوذها الاستراتيجي في المنطقة نظراً للموقع المتميز الذي تتمتع به سوريا
وهذه القوى الدولية لا تهتم بالوضع السوري حباً بالسوريين، وإنما ينصبّ اهتمامها على ما ستسفر عنه الأزمة السورية، وأهميته في إعادة رسم خريطة موازين القوى في المنطقة ذات الموقع الاستراتيجي.
الموقف التركي
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 في تركيا، بدأ النظام التركي بمحاولات فرضها كلاعب دولي فاعل، وعمل على توسيع مجال نفوذه في الدول المحيطة لتحويل تركيا من دولة هامشية إلى دولة ذات تأثير إقليمي.
وفي سوريا تميز الموقف التركي بالتلوّن حسب مصالحه وتسويق صورة أردوغان كزعيم مسلم تتجاوز سلطاته حدود بلاده، وحسب تطورات المشهد الداخلي السوري.
وبدأ النظام التركي بإعلان ثقته بنظام الأسد، ثم تحول إلى انتقاد ممارساته الأمنية، ثم إلى الدعوة لعدم تفويت فرصة التغيير السلمي في سوريا، ثم إلى التهديد بتغير موقف أنقرة تجاه الأسد ونظامه.
وبعد أن لاحظ نظام أردوغان تقدم فصائل المعارضة المسلحة على المعارضة السياسية، أعلن أن نظام الأسد فاقد للشرعية، وقدم الدعم العسكري والإعلامي والسياسي للمعارضة المسلحة، واستضافت تركيا معظم مؤتمرات المعارضة، وساهمت بتشكيل اعتراف دولي بها وتحدثت باسمها على المنابر الدولية.
وبعد تراجع الدور التركي بشكل ملحوظ بسبب التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، تخلّت أنقرة عن شعارات إسقاط الأسد وراحت تتحدث عن القبول بخطة انتقالية وفق الاتفاق الأمريكي الروسي في فينيا.
واعتمدت العدوان العسكري المباشر من خلال عملية “درع الفرات” شنتها على الأراضي السورية عام 2016، تحت ذريعة محاربة التنظيمات الكردية وسيطرت قوات المعارضة التابعة لها والمدعومة بأسلحة ودبابات وطائرات تركية على بلدة جرابلس السورية.
ثم جاء عدوانها الثاني على الأراضي السورية تحت اسم “غصن الزيتون” عام 2018، ودخلت حرب عفرين بذريعة القضاء على وحدات حماية الشعب الكردية التي تصنفها منظمة إرهابية.
ورغم أن أخر عدوان تركي تمثّل بقصف مواقع في شمال سوريا عام 2022، إلّا أن اعتداءاتها المتقطعة ما زالت مستمرة، ونواياها العدوانية غير خافية على أحد.
ومن غير المتوقع أن تنتهي الأزمة في سوريا لصالح السوريين قبل أن يتم منع رأس النظام التركي من التدخل بالشأن السوري، وتخليه عن أوهامه بإعادة إحياء الامبراطورية العثمانية البائدة.