لكل السوريين

“أم الزنار” كنيسة بقدم حضارات حمص

حمص/ بسام الحمد

تعتبر مدينة حمص واحدة من أقدم المدن السورية تاريخياً، تعاقبت على المدينة حضارات كثير لا سيما أنها بوابة الي الساحل والبادية وتتوسط سوريا، يفسر وجود عدة طوائف وديانات في المدينة غناها الحضاري وعراقتها، في المدينة عدد كبير من المعالم.

من القدم جاورت المدينة البحر وكذلك بنيت على نهر العاصي الذي كان مكانا للسكنى، كم جاورت مملكة تذمر وزنوبيا وغيرها الكثير، أول ارض زراعية استصلحت في سوريا كانت بحمص، تاريخيا بدء من القديم حتى بناء النواعير.

يوجد في المدينة الكثير من الطوائف والديانات، وتعتبر رمزا وتجمعا للديانة المسيحية، حيث تؤكد معلومات تاريخية ان المدينة سكنت قبل الميلاد واقيمت عدة حضارات وهو ما يفسر كثر الكنائس فيها، وإحدى هذه الكنائس “أم الزنار” في وسط حي بستان الديوان العريق في مدينة حمص تقع واحدة من أقدم الكنائس التي بنيت على وجه الأرض، ويعود تشييدها إلى عام / 59/ م.

كانت عبارة عن قبو تحت الأرض تتم العبادة فيه سراً خشية من الحكم الوثني الروماني ثم جرى توسيع بنائها في العهد المسيحي، ولكنها تعرضت للكثير من الدمار والتخريب الذي طال أجزاءها المختلفة خلال سنوات الحرب السورية بعد الألفية الجديدة، وواجهتها الداخلية العريقة التي رممت منذ سنوات، وكذلك الكنيسة القديمة والمذبح والدير القديم الذي يقع تحت الكنيسة الحالية وتضرر سقفها بشكل كامل وسقوط الجرسية، وتضرر بناء الميتم السرياني ودار المطرانية الملاصقين لبناء الكنيسة.

وتاريخ هذه الكنيسة الأثرية المبكر نسبياً يعيدنا إلى تاريخ دخول المسيحية إلى حمص في القرن الأول الميلادي على يد أحد المبشّرين السبعين وهو البشير “ميلا” الذي دعا إلى النصرانية في حمص وبعلبك والرستن وحماة، وكانت المسيحية آنذاك تعاني من الاضطهادات اليهودية والوثنية التي استمرت إلى أيام الملك (قسطنطين) الذي آمن بالسيد المسيح، واعتبر المسيحية ديانة الإمبراطورية في القرن الرابع الميلادي، فارتاحت المسيحية آنذاك، وبدأت تنتشر كلمة الإنجيل في أنحاء العالم، وبُنيت الكنائس والمعابد المسيحية، وعلى أثر الاضطهادات العنيفة التي عانى منها المسيحيون في بداية “الكرازة الإنجيلية” لم يتمكنوا من إشادة الكنائس والمعابد، فكانوا يجتمعون في كهوفٍ قابعة تحت الأرض، وكانوا يمارسون شعائرهم الدينية التي كانت عبارة عن صلوات بسيطة، وتُعتبر كنيسة أم الزنار نموذجاً بديعاً للكنائس الشرقية، المتسمة بتاريخها الموغل في القدم، وبُنيانها العمراني المميز.

قام القيّمون على الكنيسة بالكشف عن المائدة المقدسة صباح اليوم العشرين من شهر تموز/ 1953/ فوجدوا رقُيماً حجرياً طوله/46/سم وعرضه/44/ سم مكتوباً عليه بـ (الكرشوني) بخط حسن ما يلي:

“إنه في سنة/59/ م بُنيت هذه الكنيسة، وذلك في زمان البشير ملا المدعو أيضا “إيليا” ثم ذُكر تاريخ تجديد الكنيسة سنة /1853/م في عهد المطران (يوليوس بطرس)، وأورد الرُقيم أسماء البلدان والقرى التي تبرع أهلها بنفقات العمارة وعُثر خلال ذلك على جرنٍ حجري مغطى بصفحة نحاسية سميكة مدورة قديمة، وداخله الوعاء، وعند فتح الوعاء تكسّر لعتقه، فظهر الزنار ملفوفاً بعضه فوق بعض وإمارات القدم بادية عليه، ووُجدت أنبوبة من معدن رقيق في طرف الوعاء الأعلى تنطوي على عظم مجوف يظهر أن في داخله قطعة ورق تُركت على حالتها وجُمعت أجزاء الوعاء لحفظها، ويبلغ طول هذا الزنار المقدس /74/ سم وعرضه /5/ سم وسمكه /2/ مم، وهو مصنوع من خيوط الحرير الخالص ومطرز بخيوط الذهب على سطحه الخارجي، ولونه الذي يميل إلى البيج الفاتح.

وفي الإيمان المسيحي والتقليد الأرثوذكسي بالذات أن مريم العذراء بعد وفاتها بثلاثة أيام حمل الملائكة جسدها الطاهر إلى السماء، وأثناء صعودهم رآها القديس (توما الرسول) حيث كان يبشر في الهند ولم يشترك في تجنيز السيدة العذراء، وتأخر وصوله إلى هناك، وكان محمولاً على سحابة، فرأى وهو في الطريق العذراء تصعد إلى السماء، محمولةً في موكب ملائكي عجيب، فأخذ بركة الجسد الطاهر، وطلب علامة يبرهن بها لإخوته التلاميذ عن حقيقة صعود العذراء بالجسد إلى السماء، فأعطوه (الزنار المقدس).

ووفق مراجع تاريخية، أخذ القديس(مار توما) الزنار معه عند رجوعه مرة ثانية إلى الهند، وصحبه في الأماكن التي كُرّز فيها حتى وفاته، فحُفظ الزنار مع رفات هذا القديس طوال أربعة قرون، ثم في أواخر القرن الرابع الميلادي “في 23/آب / 394م” نقل هذا الزنار المقدس من الهند إلى “الرها” مع رفات القديس توما، ثم نُقل الزنار وحده إلى كنيسة العذراء في حمص سنة/476/ م حيث أن راهباً يدعى الأب (داوود الطور عبديني) قد حّل في كنيسة العذراء بحمص ومعه رفات الشهيد(باسوس) وتركها فيها، وكان معه أيضا (زنار العذراء المقدس) ومن يومها خلع الزنار اسمه على كنيسة العذراء، فأصبحت تُعرف من ذلك العهد باسم كنيسة الزنار أو كنيسة (أم الزنار) ودوّن في كتبها الطقسية المخطوطة، ولكن مما يؤسف له أن أكثر هذه الكتب ضاع وتفرق بحسب تقلبات الزمان وصروف الدهر، ومع ذلك بقي منها بعض الكتب المُصانة في الكنيسة، والتي ترجع إلى المائة السابعة عشرة ومنها إنجيل كنسي سرياني بخط الشماس (يعقوب الحكيم).

سنة/1602/ورد في أخره، سنة /1716/ م حضر(مارسا ويرا) مطران “الرها” في كنيسة الزنار وسام ثلاثة شمامسة وفي أوله” نظر في هذا الكتاب الشماس (برصوم بن الخوري يغمور) من مدينة حمص المحروسة في كنيسة أم الزنار والخوري يغمور كان حياً سنة/1516/ وكتاب “حسابات القيامة” للراهب (كوركيس الونكي) سنة /1608/ ورد فيه: “سنة/1855/ في /16/ حزيران لحظنا هذا الكتاب نحن (مطران بطرس) رئيس كرسي سورية، وكنا في بلد حمص في كنيسة العذراء أم الزنار وكتاب” (تجنيز الكهنة) أوقفه الراهب (عبد الله بن القس حنا شدياق الحلبي) أحد رهبان دير مار موسى الحبشي في “النبك” إلى كنيسة مريم العذراء في حمص أي -كنيسة أم الزنار- سنة 1762 م، و عندما قام مكتشفو زنار السيدة العذراء بإعادته إلى المائدة في المذبح الجديد بالحالة التي وجدوه فيها، وضعوا فوقه حجراً كبيراً نقشوا فيه بـ (الكرشوني) تاريخ تجديد البيعة عام /1852/ م في عهد السيد (يوليوس بطرس) مطران الأبرشية، وكان حينها متغيباً في العاصمة العثمانية “الآستانة” لتحصيل البراءة السلطانية لعمارة الكنيسة ولأجل مصلحة الأوقاف وذكروا في أوله بناء الكنيسة عام /59/م في زمان البشير(ملا إيليا) وعلى هذا فليس للُرقيم علاقة بالزنار كما يؤكد القيّمون على الكنيسة، لأن الغاية من وضعه إثبات تاريخ التجديد، مع إثبات التقليد القديم أن البّيع التي كانت تُبنى باسم العذراء هي من أقدمها عهداً، نرى كنيسة أم الزنار من هذا الصنف، شُيدّت بسيطة صغيرة بشكل قبو تحت الأرض بسبب تضييق الوثنية على المسيحيين في القرون الثلاثة الأولى كما ذكرا آنفاً.

وكثيراً من نصوص العهد القديم تذكر استعمال الزنانير من قبل المسيحيين الأوائل، كما يظهر من دراسة النسيج والألبسة في العهد الروماني أن الشرقيين كانوا يتمنطقون بزنانير من أنواع مختلفة، ومن الأمثلة على ذلك جذع بازلتي لامرأة من ذلك العهد متمنطقة بزنار يماثل زنار السيدة العذراء وهو محفوظ في متحف السويداء جنوب سوريا.