لكل السوريين

صياغة الذهب من أقدم المهن في مدينة حلب السورية

حلب/ خالد الحسين

تعتبر مدينة حلب من أقدم وأعرق المدن السورية وتتميز بحماماتها وأسواقها وخاناتها وطرازها المعماري الفريد والسبب الأرجح بأن الأسواق في “حلب”، اكتسبت شهرتها العالمية من تخصصها، فلكل مهنة سوق عاش أحداث هذه المهنة ومن هذه الأسواق القديمة كان “سوق الصاغة” وبامتداداته الثلاثة (سوق الصاغة الأول والثاني والثالث) والذي يشكل تجمع مهنة “صياغة الذهب” داخل المدينة القديمة منذ ما يقرب مائة عام تقريبا.

كانت جولتنا بالبداية من مخزن “درويش” والذي يشكل تجمع الصاغة الأول الذي تشعب بعدها إلى الامتدادات الأخرى، وفي سعينا للحصول على المعلومة من أصحابها، حاولنا أن نلتقي أقدم الصاغة الموجودين في السوق وهو ” أبو محمد ” والذي تطوع بالحديث عن تاريخ المخزن والسوق حيث قال:

“هذا سوق الصاغة الثالث و السبب في التسمية أنه سوق أنشئ حديثا وذلك من عشرات الأعوام تقريبا. كان يدعى في السابق سوق “البالستان” ولا أعرف أصل التسمية. أما الاسم الآخر له فهو سوق “البزازين” والذي معناه “سوق بائعي الحرير”. كان هذا السوق في السابق سوق لبيع كل من السجاد و “اللباد” و الذي هو عبارة عن ألياف صوفية مضغوطة أكثر من يستعملها هم البدو وذلك ضمن أرضيات الخيام.

«يعود عمر هذا المخزن كسوق للصاغة إلى ما يقرب من /75/ عاما. وكان في السابق سوقا لبيع الألبسة النسائية والأقمشة الأجنبية مملوكا من قبل آل “الدرويش” إلى أن احترق ذات يوم في العام /1935/، حيث كان سبب احتراق السوق آنذاك رغبة صاحب المخزن بقبض أموال التأمين على اعتبار أنه كان قد قام بالتأمين على السوق لدى شركة بريطانية، إلا أن التحقيق قام بكشف فعلته فتم حرمانه من أموال التأمين، هذا الأمر جعله يقوم بتأجير محلات هذا المخزن لتجار في مجال صياغة الذهب وليتحول بعدها إلى سوق للصاغة مع بقاء الاسم وهو مخزن “درويش” تيمناً بصاحبه الحاج “بشير درويش”».

السيد ” أبو محمد ” محاطا بشباب السوق

ويتابع بأنه جاء إلى هذا السوق منذ كان عمره ست أو سبع سنوات حيث مضى له حاليا ما يزيد عن الخمسين عاما هذا إن لم يكن أكثر، ويضيف بأن هذا السوق هو سوق مجاور لسوق آخر كان مختصا بالتعامل بشكل أساسي مع أحجار “الماس” إضافة إلى الذهب حيث يقول عن ذلك: «إضافة إلى هذا السوق، كانت هناك أسواق إضافية الأخرى مثل “سوق الحكاكين”, والذي كان قديما مركزا لصياغة الذهب والماس وذلك من 150 -200 سنة ومن هنا جاء الاسم “سوق الحكاكين” والذي جاء من حك الناس للماس والعمل فيه، بقي هذا السوق مختصا بالصياغة القديمة حتى ثمانينات القرن الماضي والذي بدأ فيه الصياغ ينتشرون في أنحاء مدينة “حلب” خارج أسواق المدينة القديمة كنتيجة لتوسع المدينة وذلك ضمن أحياء المدينة المختلفة.

ومن الصاغة أيضا من هاجر إلى خارج سورية في الفترة ما بين أواخر الخمسينات وأوائل الستينات. في فترة الستينات كان هناك ما يقارب الخمسين صائغا ما بينهم أصحاب محلات وورشات، أما حاليا فقد أصبح العدد يقارب /2000/ صائغ, كل الصاغة هنا معرفون لدى الجميع وكلهم توارثوا المهنة أبا عن جد والجميع يشهد لهم بالسمعة الحسنة والأمانة؛ الأمانة هنا تعني أمانة الصائغ على مال الناس ولمهنته أيضا على أسرار المهنة والتصنيع».

ويقول السيد “أبو محمد ” بأنه توارث المهنة أباً عن جد، وتعمل عائلته في المهنة لفترة أقدم من أن يعرفها هو أو حتى جده، ويتابع عن وضع الذهب الحالي بالقول:

«التطور الذي يحصل هو بطيء في مجال صياغة الذهب وذلك بسبب ارتباطه بالقطع والنقد والادخار رغم تحريره منذ القرن الماضي من ارتباطه بالعملات، علاوة على منع التصدير والاستيراد الأمر الذي أحجم تطوره.

أما بالنسبة لمدينة “حلب” على وجه الخصوص، فهناك العديد من المشغولات التي عرف بها أهل مدينة “حلب” مثل “كسر الجفت” على سبيل المثال (القطع ذات التخريم والنقوش والتي تعتمد على العمل اليدوي بنسبة 100%), يأتينا العديد من السياح إلا أن حركة التداول الخاصة بالذهب قليلة من قبلهم للقيود المفروضة على تصدير الذهب إلى الخارج، بالنسبة لتصنيع الذهب في مدينة “حلب” فهو قديم للغاية ويمتد منذ مئات السنين حيث كان وقتها يخرج من “حلب” ويوزع على “سورية” كلها. تصل عدد ورشات الذهب في مدينة “حلب” إلى بضع مئات إن لم نقل آلاف».

ويتابع بأن تواجد كل الصاغة في مكان محدد هو أمر أفضل كثيرا من الناحية الأمنية ويفسر ذلك بالقول:

«سبب انتشار الصاغة خارج مكان السوق وضمن أحياء مدينة “حلب” العديد من المشكلات الأمنية والتي ترافقت مع عدد من حوادث السطو لبعضهم مثلا بالنسبة لداخل المدينة القديمة، فلم تحصل قط عملية سطو في تاريخها كلها لأنها سوق محمي تماماً تفتح في أوقات محددة وتغلق في أوقات محددة, ولها حراسة أمنية وحتى شعبية مع عمليات مراقبة على الأسطح خلال فترة إغلاق المحلات ما عدا الدوريات التي تتجول ضمنها؛ كل هذه العوامل جعلت السوق ذات أمان».

ويختم بالقول بأنه ورغم العروض الكثيرة التي عرضت عليه للانتقال أو السفر للاستفادة من خبرته، فإنه قد رفضها كلها تماما وذلك لمحبته للمدينة القديمة ولسوق الصاغة الذي نشأ وتربى عليه.

يمثل سوق الصاغة واحداً من أسواق “حلب” العديدة التي لا زالت تسحر كل من زارها بكل ما فيها من تراث وبكل الحرف التقليدية وغير التقليدية التي تتواجد فيها حتى الآن.