لكل السوريين

مع اقتراب ذكرى الاستقلال.. تعود ملاحم البطولة إلى الذاكرة.. وترفرف أرواح الشهداء على مساحة الوطن

تمر بعد أيام قليلة ذكرى عزيزة على قلوب السوريين، يفوح منها عبير البطولة والكرامة، وتعطرها أزهار نيسان لتبقى أول وأجمل وأنبل مناسبة عاشتها سوريا الحديثة في ظل حرية المواطن وكرامة الوطن الموحد بعد رحيل المستعمر الفرنسي عن أرضه.

ويمكن القول إن المعارك التي تسببت بطرد هذا المستعمر من سوريا بدأت قبيل دخوله إلى دمشق، عندما قرر يوسف العظمة مواجهة جيش فرنسا الجرار، لكي لا يذكر التاريخ أنها دخلتها دون قتال أو مقاومة.

وخرج لملاقاته على رأس قوة مكونة من بقايا الجيش الذي تم تسريحه، والمجاهدين المدنيين الذين تنقصهم الخبرة العسكرية والمهارة القتالية والاسلحة الحديثة، واشتبك معه في ميسلون يوم الرابع والعشرين من شهر تموز عام 1920، في معركة غير متكافئة دامت لساعات، وتمكّن الفرنسيون من حسمها بقوة الطائرات والدبابات والمدافع الثقيلة.

واستمرت ملحمة المقاومة الشعبية المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي التي أسس لها الشهيد يوسف العظمة في ميسلون، عندما أوصى أحد الثوار باستمرار الكفاح المسلح ضد فرنسا قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة على كتفه.

واشعلت معركة ميسلون المشرفة حماسة الثوار، وعززت لديهم روح الانتماء إلى وطن حر وموحّد، وحرّضتهم على متابعة النضال ومواجهة المستعمر إلى أن تحقق الاستقلال والجلاء.

وإلى جانب المعارك الوطنية الكثيرة التي خاضها السوريون في مختلف مناطقهم، وسجلوا خلالها بطولات أشبه بالأساطير، كان للعمل السياسي الذي قامت به القوى الوطنية في سوريا، الدور الأساسي في تحقيق الاستقلال وجلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي السورية في 17 نيسان عام 1946.

الشرارة الأولى

علم ثوار القنيطرة بنية حاكم سوريا العسكري الجنرال “غورو” زيارتها، فتمركزوا على تلة مشرفة على إحدى المنعطفات بين قرية سعسع ومدينة القنيطرة، بقيادة المجاهد حمد مريود، والمجاهد اللبناني أدهم خنجر, وعندما مرّ موكب غورو، أمطروه بوابل من الرصاص، لكنه نجا من محاولة الاغتيال، وأصيب بجروح بسيطة، بينما قتل مرافقه وجرح حاكم دمشق حقي العظم الذي كان برفقته.

وبعدما أخفقت هذه المحاولة التي تمت في 23 حزيران 1921، فرّ أدهم خنجر إلى الأردن،  ومن هناك تابع نضاله ضد الفرنسيين، ثم عاد لينسف محطة توليد كهرباء دمشق لإرباك السلطة الفرنسية التي علمت بخطته، فلم يكمل سيره نحو دمشق، بل توجه إلى السويداء قاصداً “القريّا” معقل سلطان باشا الأطرش لطلب الحماية والمساعدة.

فأدركته دورية عسكرية فرنسية، وألقت القبض عليه أمام دار سلطان الذي كان خارج قريته حين علم بالأمر، واعتبره خرقاً للعادات والتقاليد، وأرسل شقيقه ليطلب من الفرنسيين إطلاق سراح خنجر، وسعى بعض الوجهاء إلى ذلك، فلم يستجب الفرنسيون لهذه المحاولات.

فقرّر سلطان المواجهة ورابط مع رفاقه على الطريق التي سينقل الفرنسيون أدهم خنجر منها إلى دمشق.

وعندما قدمت ثلاث سيارات مصفحة لنقله، اشتبكوا معها وحطموا إحداها وأسروا الثانية، وعادت الثالثة من حيت أتت.

وردت السلطات الفرنسية على هذه العملية البطولية بعنف، وقصفت طائراتها قرية سلطان وهدمت منزله، وأوقعت ضحايا من النساء والأطفال، وصادر الفرنسيون الغلال والماشية وأحرقوا المحاصيل، وفرضوا غرامات باهظة على الأهالي.

بدء الثورة

نتيجة للممارسات الفرنسية، وبالتنسيق مع الوطنيين في دمشق وثوار المنطقة الوسطى والشمال السوري، أعلن سلطان باشا الأطرش الثورة على فرنسا في شهر تموز عام 1925، تحت شعار الدين لله والوطن للجميع، وجاء في بيان إعلان الثورة “إلى السلاح أيها السوريون، يا أحفاد العرب الأمجاد، هذا يوم ينفع المجاهدين جهادهم، والعاملين في سبيل الحرية والاستقلال عملهم، هذا يوم انتباه الأمم والشعوب، فلننهض من رقادنا ولنبدّد ظلام التحكم الأجنبي من سماء بلادنا.

لقد مضت علينا عشرات السنين ونحن نجاهد في سبيل الحرية والاستقلال، فلنستأنف جهادنا المشروع بالسيف بعد أن سكت القلم، ولا يضيع حق وراءه مطالب.

لقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارة بين وطننا الواحد، وقسمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرية الدين والفكر والضمير وحرية التجارة والسفر حتى في بلادنا وأقاليمنا.

إلى السلاح ايها الوطنيون إلى السلاح تحقيقاً لأماني البلاد، إلى السلاح تأييداً لسيادة الشعب وحرية الأمة، إلى السلاح بعدما سلب الأجنبي حقوقكم واستعبد بلادكم ونقض عهودكم، ولم يحافظ على شرف الوعود الرسمية”.

معركة الكفر

انطلق سلطان باشا الأطرش ورفاقه إلى قرى الجبل لحثهم على الجهاد ضد الفرنسيين فحلقت  فوقهم طائرتان فرنسيتان لبث الرعب في صفوفهم، فأسقط الثوار إحداهما وقبضوا على طيارها، وتوجهوا إلى مقر البعثة العسكرية الفرنسية في صلخد وأحرقوه.

فانطلقت حملة فرنسية من قلعة السويداء بقيادة الكابتن نورمان، للقضاء على الثوار وإعادة هيبة السلطة الفرنسية، وتمركزت على هضبة صخرية في قرية الكفر.

فهاجمها المئات من المجاهدين وكان معظمهم يحمل السلاح الأبيض، في حين كانت القلة منهم تحمل بنادق ألمانية وعثمانية قديمة.

وحال هجوم الثوار الصاعق وهول المفاجأة، بين الفرنسيين وأسلحتهم، واستمرت المعركة حوالي ساعتين قضى الثوار خلالهما على الحملة وقتلوا قائدها، بينما استشهد فيها أربعون من الثوار من بينهم شقيق سلطان الأطرش.

وذكر الجنرال أندريا في مذكراته أنه نجا من معركة الكفر خمسة من الجنود الفرنسيين فقط.

وغنم الثوار في هذه المعركة الأسلحة والذخيرة الفرنسية التي استخدموها في المعارك اللاحقة، وعززت ثقة المواطنين بقدرتهم على المقاومة، وجعلت من الثورة أمراً واقعاً.

معركة المزرعة

بعد معركة الكفر، أرسل المندوب السامي الفرنسي في سوريا “سراي”، حملة عسكرية تعدادها ثلاثة عشر ألف جندي بقيادة الجنرال ميشو للقضاء على الثورة وإخضاع السويداء.

وفي الثالث من شهر آب عام 1925، تمكن أقل من ألف مقاتل من هزيمة الحملة، وحطموا أسطورة الجيش الفرنسي، وسطروا أروع ملاحم البطولة في تاريخ مقارعة الاستعمار.

وكان الشبان يتربصون للمدرعات ويكمنون لها، حتى إذا اقتربت منهم قلبوها بأكتافهم وقتلوا سدنتها بخناجرهم ومسدساتهم، وأحرقوها.

وقال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في مذكراته “جرت ملحمة بالسلاح الأبيض لم يجر مثلها منذ ذكر الواقدي خبر الفتوحات”.

كما وصف الجنرال اندريا قائد الحامية الفرنسية في المنطقة الجنوبية هذه المعركة بقوله “انقلبت موقعة المزرعة الى كارثة عظيمة، كانت هذه الهزيمة حملاً ثقيلاً علينا وضربة قاسية لنفوذنا واحترامنا في الشرق”.

وقال الجنرال ميشو، قائد الحملة أمام المحكمة العسكرية في باريس “لم يدر في خلدي أن يتمكن مقاتلون عزل من السلاح من الانتصار على فرقة عسكرية خاضت غمار الحرب العالمية يبلغ تعدادها ثلاثة عشر الف جندي مجهزين بالأسلحة الحديثة من مدافع ودبابات وطائرات مستغلين الاشتباك المباشر وعنصر المفاجأة”.

ثورة دمشق

اتفق الدكتور الشهبندر مع قيادة الثورة في جبل العرب، على امتداد الثورة إلى دمشق فتوجهت حملة منهم برفقة عدد من مجاهدي دمشق الذين رافقوا هذه الحملة إثناء مسيرها، والتحق بهم عدد كبير من الثوار من مختلف المناطق السورية، وتعرضت الحملة للخسارة في منطقة “العادلية” قرب الكسوة، وتمكن عدد من المجاهدين من الوصول إلى دمشق، وحاضت الحملة عدة معارك مع الفرنسيين في الغوطة كانت أولها معركة “جوبر” حيث اصطدم المجاهدون مع حملة فرنسية وهزموها.

وبدأ الثوار بمحاولات إحكام الطوق على دمشق قبل اقتحامها، وفي هذه الأثناء علموا بوجود الجنرال “ساراي” في قصر العظم، فهاجمه الثوار ووقعت معركة حامية احترق على إثرها  القصر، وهرب ساراي إلى مقر قيادة الأركان، وقامت القيادة الفرنسية بدكّ دمشق بالمدافع لمدة ثلاثة أيام هدم خلالها العديد من شوارعها وبيوتها الأثرية، واستسلمت المدينة تحت وطأة القصف العنيف، واضطرت لقبول الغرامات الباهظة التي فرضها المفوض السامي.

وبعد المواجهات العديدة مع القوات الفرنسية، وخوفاً على دمشق من التدمير انسحب الثوار منها إلى منطقة جبل القلمون، حيث تابعوا الثورة منها.

ثورة الشمال

وكان الزعيم ابراهيم هنانو قد أعلن الثورة شمال غرب سوريا ضد الفرنسيين في بيان موجه إلى عموم أفراد الشعب للمشاركة في الثورة، واتفق مع الشيخ صالح العلي على التنسيق والتعاون بين الثورتين.

وبعد أن فقدت هذه الثورة مقوّمات النجاح، انسحب هنانو مع أربعين مجاهداً باتجاه البادية  بهدف الالتجاء إلى شرق الأردن.

وبعد إقامة قصيرة في عمّان انتقل إلى فلسطين ليغادر منها إلى أوروبا، ولكن سلطات الاحتلال البريطاني اعتقلته وسلّمته إلى الفرنسيين الذين أحالوه إلى محكمة عسكرية فرنسية في حلب.

وكانت ثورة الشمال قد خاضت مجموعة من المعارك مع القوات الفرنسية في السويدية وفرزلي وانطاكية والحمام الرامي‏ واسقاط والسيجري، وفي معركة جسر الشغور التي اشترك فيها ثوار من جبل الزاوية وقصير وانطاكية بقيادة هنانو تمكن الثوار من تحرير المدينة وألحقوا بالعدو خسائر مادية وبشرية فادحة وغنموا خلالها كميات كبيرة من العتاد والسلاح والمؤن.

وتواصلت معارك الثوار ضد المحتلين في كل قرية وقمم جبال الزاوية وحارم وانطاكية.

ثورة الساحل

كانت ثورة الساحل بقيادة الشيخ صالح العلي واحدة من أوائل عمليات المقاومة المسلحة ضد القوات الفرنسية منذ أن احتلت ساحل سوريا.

ودعا صالح العلي إلى عقد اجتماع مع وجهاء المنطقة البارزين في مدينة الشيخ بدر، وحذر خلاله من أن فرنسا احتلت ساحل سوريا بهدف فصل المنطقة عن باقي أراضي الدولة، وحثهم على الثورة وطرد الفرنسيين من الأراضي السورية.

ونسق الشيخ العلي مع ثورة إبراهيم هنانو في حلب وانتفاضة تلكلخ التي قامت بها قبيلة الدندشي والثورة في أنطاكية التي قام بها صبحي بركات.

فهاجمت القوات الفرنسية الشيخ العلي وأوقعت إصابات وخسائر ضخمة بين صفوف قواته، ولكنه قام بهجوم مضاد وطرد خلاله القوات الفرنسية من القرى التي احتلتهاً.

وبعد انتصارات الثورة السورية الكبرى التي استمرت حتى ربيع عام 1927، قامت فرنسا بإرسال آلاف الجنود إلى سورية ولبنان مزودين بأحدث الأسلحة، مما أدى إلى قلب الموازين لصالحها، ومكّنها من إعادة السيطرة على كثير من المدن.

وتحول الجهاد إلى الحلبة السياسية والدبلوماسية حيث استمرت النخب السورية في مقاومة المستعمر الفرنسي في الداخل، وفي أروقة الأمم المتحدة إلى أن تحقق الاستقلال ورحل آخر جندي فرنسي عن سوريا في 17 نيسان عام 1946.

وأقيم عيد الجلاء الأول فيها ورفع شكري القوتلي علم بلاده فوق سماء دمشق، وألقى بهذه المناسبة كلمة جاء فيها:

“بني وطني.. هذا يوم تشرق فيه شمس الحرية الساطعة على وطنكم، فلا يخفق فيه إلا علمكم، ولا تعلو فيه إلا رايتكم.. هذا يوم الحق تدوي فيه كلمته، ويوم الاستقلال تتجلى عزته، يوم يرى الباطل فيه كيف تدول دولته، وكيف تضمحل جولته، هذا يوم النصر العظيم والفتح المبين”.