لكل السوريين

خيبة.. أحلام وآمال

عبد الكريم البليخ  

بين ما هو واقع ومتأمّل هناك فوارق كثيرة على المرء أن يضعها نصب عينيه، وفي حين غرّة فإن الرّقة اليوم، المدينة تغيرت كلياً ما بعد عام 2013، من بدء اندلاع ثورة التغيير على الواقع السلبي المعاش والحال الذي كانت عليه واللعنة التي صاحبتها، ما يعني أنّ المدينة خسرت الكثير من أبنائها وأبنيتها وأحيائها الحديثة البناء، فضلاً عن بنيتها التحتية، والكثير من الأماكن التي كانت محطّ رجاء أهلها، وارتضم به مكاناً وسكناً للعيش فيه.

الرّقة، بصراحة، تأتي في مقدمة المدن السورية، وبصورة خاصة بعد النهضة العمرانية النشطة التي شهدتها المدينة، وقسم كبير من قراها نتيجة الواقع الاقتصادي الجيد، والمداخيل التي كانت تدخل جيوب أهلها سواء من حاصل الزراعة أم تربية المواشي، ومن عائدات تجارية مختلفة، وحتى من قبل أبنائها المغتربين، وحققت تلك القفزة نهضة متسارعة في العمران شهدته أغلب أحيائها، وهذا ما جمّل شوارعها، وازدانت رونقاً في ظل تلك النهضة التي فرح بها أهلها بعد أن كانت مجرد حلم وردي يُلاعب خيالهم.. كما أعيد للشوارع صياغة خدمية متميّزة، و صيانة أغلبها ترافق ذلك مع اعادة النظر في البنية التحتية من كهرباء وماء وهاتف، وتوسعت بعضها وأعيد لها نشاطها وهيكليتها من جديد بعد موت سريري عاشته لفترة طويلة استمرت سنوات!.

لن نجافي الحقيقة إن قلنا أنَّ المحافظ ما قبل الأخير الذي استلم إدارة المحافظة في الفترة التي سبقت قيام الثورة، عمل بجد، وهذه حقيقة لا يمكن أن ننكرها للنهوض بواقع المدينة الخدمي المتهالك في حينها، بغض النظر عن المكاسب المالية التي كانت تدخل إلى جيوبهم الفارغة، وبنسب عالية، واستفاد منها كثير من الفاسدين من الموظفين الذين كانوا قائمين على رأس عملهم، فضلاً عن متعهدي المشاريع ومنفذيها، إلّا أنَّ الحق يُقال أنَّ القفزة التي كسبتها الرّقة تسجل بطاقة شكر وعرفان بالجميل بحق المحافظ  المشار إليه، ولكل من عمل بجهد وإخلاص في تلك الفترة الزمنية التي سبقت قيام الثورة، التي وبرغم ايجابياتها إلّا أنها تركت لعنة أصابت الجميع في مقتل، وهذه حقيقة لا يمكن لأحد أن يغفل عنها!

وبنظرة سريعة اليوم إلى الحال الذي جسدته الثورة من تغيير، والمشكلات التي نتجت عن اندلاع شرارتها تركت الكثير من المواقف المحزنة والنتائج المخيّبة للآمال، ونتج عن ذلك دماركبير، ليس الرّقة كمدينة فحسب، وإنما لحق الخراب والدمار مدن وقرى وبلدات سورية، ولم يكن أحد يتوقع أن يكون مصيرها أن يصبح على هذه الصورة التي وصلت إليه اليوم، فالضرر دفع بأهلها إلى هجرها وخلوها تماماً، أضف، وهذا الأهمّ، دمار وخراب الكثير من المؤسسات الحكومية والقطاعات الخدمية التي تتبع الحكومة وتعود بنفعها على المواطن بصورة مباشرة.

ورافق الثورة نجاح لافت برغم المؤسيات التي نتج عنها، ومن أهمها اقتلاع العديد من العاملين من وظائفهم الذهبية التي لهم باع طويل في خدمتها، وشغلوا أماكن مهمّة ورئيسة في مؤسسات الدولة ومديرياتها لفترة مُبعدة من الزمن، و لم نعد نرى منهم أحد اليوم. اختفى أغلبهم وتركوا مكان عملهم لآخرين، ومنهم من غادر |إلى خارج القطر فاراً بريشه من إلحاق الضرر به. تفرقوا في أماكن بعيدة ومختلفة وظهر بدلاً منهم أناس كانوا من الأجدى اشغال أماكنهم التي تبيض ذهباً!

الأغلبية من هؤلاء تربطهم بالمسؤولين في العاصمة علاقات حميمية، لا سيما أنهم يخصونهم بمبالغ مالية بين فترة وأخرى للإبقاء على كراسيهم والحفاظ عليها برغم أنوف الجميع!

هذه الفوارق الوظيفية، وهذه اللعنة التي صاحبت قيام الثورة كانت لها إيجابياتها برغم التخريب والدمار وفقدان الكثير من الأرواح، والنزوح والهجرة التي شهدتها الرّقة وغيرها من المدن السورية، وحالات الاغتراب التي أصابت الجميع تركت أكثر من اشارة استفهام.

اليوم، وبعد أن انكشفت الحقائق، واتضحت الصورة المعتمة جلية، وبان الخيط الأبيض من الأسود، ماذا عسانا أن نقول على الرغم من الخدمات الجليلة التي تقدم من قبل منظمات المجتمع المدني، وبدت صورة الرّقة تظهر بخطوات فيها الكثير من التفاؤل، ومعها صارت أكثر قرباً إلى ابنها الذي تركها عنوة وهرب باتجاه دول الأوربية المختلفة التي احتضنت أعداد كبيرة منهم، ناهيك بالنزوح إلى داخل المدن السورية، فتغيرت صورتها بشكل جذري بعد اجلاء عصابات “داعش” الارهابية عنها مع نهاية عام 2017 والتي تسبب في مقتل أكثر من ألف وستمائة من أبنائها.

بعد مضي أكثر من أربع سنوات ونيّف من طردهم من الرّقة ماذا يمكن أن نقول؟ الواقع يشير، وبشهادات أهلها، وعلى الرغم من الغلاء المستشري، والوضع المتأزّم الخانق، أنّها خطت خطوات جد مقبولة قياساً بالماضي الأليم، بعودة الحياة لها من جديد، وتحسنت صورتها بشكل كبير عمّا هو عليه بعد أن داهمتها عصابات “داعش” المجرمة، إذا ما قيس ذلك بالمدن السورية البقية التي ما زالت ترزح تحت حكم النظام الأسدي الفاسد الذي غيّب العديد من شبابها، وأعاد سوريا إلى بوابات الجهل الأولى، وأنهك أهلها، وعاش معها المواطن لعنات مريرة بفضل المعاناة والفقر المدقع الذي عاشه وما زال يحبط معنوياته، وكل ما نتمناه هو تحسّن دخل المواطن، والنهوض بقوت يومه أسوة بغيره من أبناء جلدته.

 

اتصل بي صديق مقرب ناقلاً لي الواقع الطبّي السيء في مدينة الرّقة، والغلاء المستشري والفساد غير العادي الذي دقّ أطنابه بغياب الرقابة، الذي يبدأ من عيادة الطبيب الاخصائي، ولا ينتهي إلا بالحصول على وصفة الدواء التي يتفنن بكتابتها أطباء الرّقة المخضرمين، الذين هم بعيدون وللأسف، عن أي ضمير مهني أو أخلاقي حيال العلاج الذي يبدأ لأقرب الناس ولا ينتهي إلّا بعامّتهم الذين يعانون من تفاقم هذه المشكلة، فضلاً عن ارتفاع فواتير المشافي الخاصة التي تحرق الجيوب الفقيرة المستهلكة، والتي تشكل هي الأخرى سهام حادّة موجهة إلى صدور المرضى!

وأكد لي أحدهم أنّ الأغلبية باتوا يضطرون الى بيع مخصصاتهم من مادة مازوت التدفئة الذي يستفاد منه في فصل الشتاء للتخفيف من البرد الشديد الذي يتعرض له الأهالي ليصار إلى شراء الأدوية والطعام والشراب، يسدون به رمقهم!

هذه الصورة، وغيرها كثير من صور مخجلة في الواقع أعادتني إلى أيام زمان، وفتحت أمامي حديث طويل اضطرني الاتصال بصديق ثان وثالث للتأكد مما يجري اليوم في الرّقة، فقال لي كيف لمريض مثلي تأمين وصفة الدواء في ظل الواقع المتردي والذي يزداد سوءاً يوماً بعد آخر، ويقف ذاك الشاب عاجزاً عن شراء قطرة عينية تخفّف عنه بعض الألم ما يلجئه ذلك إلى الوقوف يوماً بكامله أمام أحد المحال التجارية متوسلاً المارة ليتمكن من تحصيل بعض النقود لشراء حاجته، وهو في الوقت نفسه غير قادر على مراجعة طبيب من الدرجة الثالثة للوقوف على مرضه المزمن!!.

وفي الجهة المقابلة أدهشت حقيقة عند مشكلة التعليم الثانوي والاعدادي، والأرقام المالية التي يدفعها الأهالي للقائمين على المعاهد التعليمية الخاصة لقاء التحاق أبنائهم بها، وأنَّ الأغلبية من هؤلاء الطلاب باتوا يمتنعون عن شراء الحاجيات الضرورية من طعام وشراب لجهة تأمين أجور ساعات التدريس لتلك المعاهد التي يشرف عليها معلمون ومدرسون مختصون ساهموا في تأسيسها، وقد تميز بعض تلك المعاهد بتحقيق طلابها نتائج تفاخر بها في الامتحانات النهائية في العام الماضي والذي سبقه، وما زالت أمثال تلك المعاهد مستمرة في عملها وملتزمة تجاه طلابها بهدف تحقيقهم السبيل نحو الحصول على الشهادة الحلم في ظل معاناتها، وكل ما تهدف إليه تلك المعاهد هو خلق بيئة تعليمية، ووجوه باسمة ومشرقة للحياة تحلم بمستقبل وردي بدلاً من الحال المؤسي الذي يعيشه بعضها، وهذا النجاح في تلك المعاهد التعليمية فتح المجال واسعاً أمام أعداد كثيرة من الطلاب في إكمال دراستهم، والمواظبة قدماً حيال الالتزام بها، وخلق روح من التنافس الشريف في ما بينها، والمستفيد من كل ذلك هؤلاء الطلاب المثابرين على تحصيل العلم بهدف تحقيق النجاح ليتمكنوا من دخول الكلية والجامعة التي يرغبون.