لكل السوريين

العدالة الاجتماعية أساس النمو الاقتصادي والسلم الأهلي والتماسك المجتمعي في سوريا

تمر سوريا اليوم في انعطافه تاريخية كبرى، بعد أن هربت سلطة الأسد التي حكمت لعقود بقبضة من حديد، تاركة وراءها دماراً اقتصادياً واجتماعياً شاملاً، وأصبح السوريون في مواجهة تحدي تاريخي، يتمثل في إعادة بناء بلادهم، ليس فقط على مستوى البنية التحتية والمؤسسات، وعبر بناء نظام اقتصادي يعبر عن تطلعاتهم التي جرى قمعها لعقود، تطلعاتهم بنموذج اقتصادي موجه لخدمة المجتمع ككل، وليس لمصلحة نخب فاسدة كما كان الحال في ظل السلطة السابقة، بنموذج اقتصادي له الآليات الكفيلة بتحقيق النمو الاقتصادي الضروري في سورية، من أجل بناء اقتصاد وطني قوي يمكن من تحسين مستوى المعيشة.

منذ سقوط سلطة بشار الأسد، أصبحت مسألة السلم الأهلي وصونه في صدارة اهتمامات السوريين، لكن السوريين على اختلاف آرائهم وانتماءاتهم، يبقون قلقين بشأن مستقبل بلادهم، وخاصة فيما يتعلق بقدرتهم على الحفاظ على السلم الأهلي على المدى الطويل، ففي ظل تنوعٍ سياسي وثقافي وقومي وديني وطائفي، وتاريخٍ من التوترات التي تفاقمت بسبب الصراع، يبرز تحد سياسي فيه اختبار لإرادة الشعب وهويته الوطنية الجامعة.

والمسألة الجوهرية ترتبط بالعلاقة بين العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي المطلوب في سورية، وتحقيق نمو اقتصادي حقيقي ومستدام عبر حل مشكلة العدالة الاجتماعية، وتحقيقها، عبر عدالة في توزيع الثروة، حيث أن الفجوة الواسعة في توزيع الثروة هي عامل رئيسي في عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، لذلك فالعدالة الاجتماعية ليست مجرد هدف أخلاقي أو شعار سياسي، بل هي الضمانة الحقيقية لتحقيق نمو اقتصادي مستدام يخدم مصالح الأغلبية، وليس فقط فئة محدودة من رجال الأعمال والمستثمرين. وأي نظام اقتصادي لا يأخذ بالحسبان ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية سيفقد مبرر وجوده مع مرور الوقت، لأن الابتعاد عنها لن يؤدي فقط إلى مزيد من التناقض الطبقي، بل سيحول دون تحقيق أي نمو اقتصادي حقيقي وراسخ.

ارتبطت الحرية بالحقوق السياسية، مثل حرية التعبير والتجمع والمشاركة في الحياة السياسية، وهذه النظرة تتجاهل حقيقة أساسية، وهي أنه لا يمكن أن توجد حرية حقيقية في ظل غياب العدالة الاجتماعية، فحين يسيطر عدد قليل من الأفراد على الثروة والموارد، بينما تعاني الأغلبية من الفقر والتهميش، تصبح الحريات السياسية مجرد شعارات، لأن الفقر نفسه هو أعلى شكل من أشكال القيود المفروضة على البشر وحرياتهم، فالحرية ليست مجرد غياب للقيود السياسية أو القدرة الشكلية على التصويت وإبداء الرأي، بل هي القدرة الفعلية على التأثير في الحياة السياسية دون أن يكون الإنسان مقيداً بالعوز أو الحرمان. فالإنسان لا يكون حراً حقاً إذا كان يفتقر إلى أساسيات الحياة مثل التعليم الجيد، والرعاية الصحية، والمسكن اللائق، والعمل الذي يوفّر له حياة كريمة. والحرية الحقيقية لا تعني فقط أن يكون للفرد الحق في التعبير، بل أن يمتلك القدرة الفعلية على ممارسة هذا الحق دون أن يكون أسير الفقر أو التهميش الاجتماعي، فتحقيق مستويات أعلى من العدالة الاجتماعية يؤدي بشكل مباشر إلى تعزيز الحريات العامة، الاستبداد ليس مجرد وسيلة طارئة تلجأ إليها السلطة في أوقات الأزمات، بل هو جزء أساسي من بنية الأنظمة الاقتصادية غير العادلة، لا يوجد نظام اقتصادي ظالم دون أن يتحول إلى نظام سياسي قمعي، إذا فرضت قيود على العدالة الاجتماعية، فلا بد أن تفرض قيود موازية على الحريات السياسية، لأن السماح بحرية حقيقية في ظل تفاوت اقتصادي حاد سيؤدي في النهاية إلى المطالبة بتغيير هذا التفاوت.

يدعي البعض بأن السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية يمنح الدولة تلقائياً سلطات واسعة مما يقود إلى نظام شمولي يحد من الحريات الفردية، وهو ادعاء يقوم على افتراض أن أي تدخل حكومي هو بالضرورة شكل من أشكال القمع، وهو افتراض يتجاهل طبيعة المجتمعات ودور أجهزة الدولة في العالم. فالحرية الحقيقية لا تتحقق بمجرد غياب التدخل الحكومي، بل تتطلب توفير الشروط المادية التي تضمن قدرة الأفراد على الاستفادة من حقوقهم. إذا كانت الدولة توفر التعليم والصحة والإعانات الاجتماعية، فهي لا تفرض قيوداً على الحريات، بل تزيل العقبات التي تمنع الفئات المهمشة من ممارسة حريتها. وبالمقابل، فإن غياب العدالة الاجتماعية لا يؤدي إلى مزيد من الحرية، بل إلى تعزيز الهيمنة الاقتصادية لنخبة صغيرة تمتلك الموارد وتتحكم في مصائر الناس، مما يخلق نوعاً آخر من الاستبداد، وهو استبداد السوق الذي لا يخضع لأي مساءلة ديمقراطية. وفي مثل هذه الظروف، تصبح الحرية امتيازاً لفئة قليلة، بينما يُترك الباقون في حالة من العجز الدائم عن تقرير مصيرهم بسبب الفقر والحرمان.

غياب العدالة الاجتماعية يهدد السلم الأهلي، بسبب آثاره الاقتصادية المباشرة، وتداعياته الاجتماعية والسياسية العميقة التي تضعف تماسك المجتمع وتهدد استقراره، ففي غياب نظام عادل لتوزيع الثروة والفرص تتفاقم الفجوة الطبقية وتتعمّق مشاعر الإقصاء والظلم بين الفئات المهمشة، مما يخلق بيئةً قابلة للانفجار في أي لحظة. وفي الحالة السورية، كان غياب العدالة الاجتماعية أحد الأسباب الرئيسية التي أفضت إلى انفجار الأزمة التي عصفت بالبلاد، حيث أدى تركز الثروة والسلطة في أيدي نخبة الفساد الكبير إلى تهميش الغالبية العظمى من الشعب، مما ولّد حالةً من السخط الجماعي وعدم الرضا الاجتماعي.

وأن أخطر جوانب غياب العدالة الاجتماعية هو انهيار منظومة الحماية الاجتماعية التي توفرها الدولة، فتراجع الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والإسكان، وتفقد الدولة قدرتها على توفير شبكة أمان اجتماعي تحمي المواطنين، فغياب العدالة الاجتماعية أدى إلى تفاقم التوترات، حيث تحولت المظالم الاقتصادية التي تعرض لها السوريون على اختلاف انتماءاتهم إلى صراعات تهدد السلم الأهلي. فكلما انخفضت مستويات العدالة الاجتماعية، تراكمت تحت السطح العوامل المؤدية إلى تفجير الأوضاع، وأي استقرار يتم تحقيقه عبر القوة وحدها ليس إلا استقرارا زائفا وهشا، لا يلبث أن ينهار عند نضوج ظروف الانفجار، لأن أساس الاستقرار الحقيقي لا يمكن أن يبنى على ضمان العوامل الأمنية فقط إنما الاقتصادية الاجتماعية، وتعيش سورية اليوم أحد أسوأ أشكال غياب العدالة الاجتماعية في تاريخها الحديث، التي تحتاج الى توفر إرادة سياسية، ويتطلب الأمر إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية، وإعادة تأهيل القطاعات الإنتاجية، وإعادة الاعتبار للدولة كضامن للحقوق، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس الكفاءة والمساواة، ليست العدالة الاجتماعية ترفا فكريا في سورية، بل هي شرط بقاء. فالمجتمع المستنزف مهدد بالتفكك والانفجار، والسلم الأهلي لا يُفرض بالدبابات، بل يبنى بتوزيع عادل للثروة، وبمنظومة حقوق تعيد للبلد قوته، وللمواطن كرامته.