لكل السوريين

الانتخابات الرئاسية التركية.. معركة مفصلية وتوقيت مريب ورهانات غامضة

يمنع الدستور التركي ترشيح الرئيس لأكثر من دورتين، إذا أجريت الانتخابات في موعدها، وإذا أجريت قبل موعدها، يمكن للرئيس الفائز مرتين بالرئاسة المشاركة في الانتخابات للمرة الثالثة، ولذلك لجأ رئيس النظام التركي إلى إجراء الانتخابات قبل موعدها الذي كان مقرراً

يوم 18 حزيران، بذريعة أنه يتزامن مع موسم عطلات الصيف، وحدد موعدها في 14 أيار القادم لما لهذا التاريخ من دلالات رمزية وتاريخية.

ومنذ اتخاذ القرار تشدد حكومة رئيس النظام التركي قبضتها على وسائل الإعلام، وتفرض المزيد من القيود على وسائل التواصل الاجتماعي، وتجرّم أي محتوى تعتبره “معلومات مضللة”.

وقالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في “التقرير العالمي 2023″ إن الحكومة التركية عززت سلطاتها الرقابية واستهدفت المنتقدين والمعارضين بتهم جنائية زائفة، وأحكام بالسجن قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستُجرى في 2023”.

وقال مدير قسم أوروبا وآسيا الوسطى في المنظمة “نفذت الحكومة مناورات شديدة التعسف ضد المعارضة السياسية، وحظراً شاملاً على الاحتجاج العام، وسجنت المحاكم التي تعمل بموجب أوامر سياسية وأدانت المدافعين الحقوقيين والمنتقدين”.

وقبل أسابيع من موعد الانتخابات أعلن رئيس النظام التركي عن تخفيض أسعار الكهرباء للاشتراكات السكنية والتجارية، وتخفيض فواتير الغاز الطبيعي للشركات الصناعية، وزيادة رواتب الموظفين والمتقاعدين بهدف نيل رضاهم وكسب أصواتهم.

معركة مفصلية

يرى مراقبون أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية المقبلة ستكون معركة مفصلية يحاول كل طرف امتلاك واستخدام أكبر قدر من نقاط القوة فيها.

ويبقى تقرير مصير أردوغان مرشح “تحالف الجمهور” الذي يقوده حزب العدالة والتنمية الحاكم، وكمال كليجدار أوغلو مرشح “تحالف الأمة” المنبثق عن الطاولة السداسية، متروكاً للناخب التركي الذي سيرتهن قراره غالباً، بالعديد من العوامل الداخلية والخارجية، مما يصعّب ترجيح فوز أي مرشح في الانتخابات قبل إعلان نتائجها.

فطبيعة “تحالف الأمة”، وتنوعه الفكري والشعبي القادر على مخاطبة شرائح مختلفة من الشعب التركي قد تشكل نقطة قوة له، إذ يساعد هذا التنوع، في حال استمراره دون نزاعات داخلية، على إرسال رسالة مشتركة تعبّر عن أطياف مختلفة من المجتمع التركي.

ولكن هذا التنوع قد يؤثر سلباً على مستقبل التحالف، نظراً لحالة التباين بين أحزابه نتيجة التناقضات الفكرية، وغموض برنامجه الانتخابي رغم إعلانه خارطة الطريق لعمله في حال فوز مرشحه بالرئاسة، ولكن دون وجود تفاصيل واضحة لهذه الخارطة، كما أن التحالف لم يتقدم بأي برنامج اقتصادي متكامل يطمئن الناخب التركي، واكتفى بالتركيز على إسقاط أردوغان وسياساته الاقتصادية، ونظامه الرئاسي.

في حين يركز “تحالف الجمهور” على منجزات الحزب الحاكم الذي مكّن تركيا من لعب دور نشط على الساحة الإقليمية والدولية.

وعلى تصريحات أردوغان التي تزعم أن تحالفه الوحيد القادر على إعادة الإعمار في المناطق المنكوبة بسبب الزلزال.

وسعي رئيس النظام إلى تغيير طريقة إدارة المعركة الانتخابية من خلال إلغاء المهرجانات الكبيرة “تقديراً للكارثة التي حلت بتركيا”، والاكتفاء باللقاءات المصغرة في مختلف المحافظات، رغبة منه بالحصول على احترام جماهير الناخبين للحزب، وانتخاب رئيسه.

حسابات انتخابية

منذ إعلانه عن تقديم موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بدأ رئيس النظام التركي بالتحرك لكسب أصوات الناخبين، فأعلن عن زيادة رواتب موظفي الدولة والمتقاعدين بنسبة 25%.

وما من شك في أنه يعرف أن الأوضاع المعيشة في البلاد ستلعب دوراً رئيسياً في تحديد هوية الرئيس الفائز في الانتخابات القادمة.

فعمد إلى اتخاذ إجراءات تستهدف التقرب من الناخبين وكسب رضاهم، حتى لو تعارضت تلك الإجراءات مع الوضع الاقتصادي السيئ الذي تعيشه تركيا التي تحتاج إلى إصلاحات تقوم على التقشف للخروج من الأزمة الحادة التي تعيشها، لكن رئيس النظام التركي فضّل مصلحته ومصلحة حزبه على مصلحة بلاده من خلال الزيادة الكبيرة في رواتب الموظفين والمتقاعدين، على أمل أن تدفع هذه الزيادات الناخبين إلى دعمه للفوز بولاية رئاسية ثالثة، وتمكين حزبه من الحفاظ على أغلبية مريحة له في البرلمان، في وقت تظهر فيه استطلاعات الرأي المختلفة أن الأتراك أصبحوا أكثر ميلاً إلى المعارضة والبحث عن شخصية جديدة لرئاسة البلاد بعد فشل رئيس النظام الحالي في تحسين أوضاعهم المعيشية.

رهانات الانتخابات

يواجه رئيس النظام التركي أكبر اختبار لحكمه القائم منذ عقدين من الزمن، في انتخابات أيار القادم التي ستحدد من يقود تركيا، وأسلوب الحكم فيها، وإلى أين يتجه اقتصادها ودورها في الشرق الأوسط والعالم.

فقد ركز أردوغان كافة السلطات بيده من خلال رئاسة تنفيذية تقرر السياسة الاقتصادية والأمنية والمحلية والدولية لتركيا.

ويقول معارضون إن حكومته قمعت المعارضة وقوّضت الحقوق وأخضعت النظام القضائي لنفوذها.

كما يقول اقتصاديون إن سياسات أردوغان الاقتصادية صعدت بالتضخم إلى أعلى مستوى في 24 عاماً ليبلغ 85 بالمئة العام الماضي، وأفقدت الليرة التركية تسعين بالمئة من قيمتها مقابل الدولار على مدار العقد الماضي.

وتعهد “تحالف الأمة” بالتراجع عن سياسات أردوغان الاقتصادية، وإعادة الاستقلال للبنك المركزي، وتفكيك نظامه الرئاسي التنفيذي لصالح النظام البرلماني السابق.

ويرى متابعون للشأن التركي أن ظهور المعارضة الموحدة سيمثل تحدياً كبيراً لأردوغان، إذا تمكنت كسب تأييد حزب “الشعوب الديمقراطي” الذي لم يطرح مرشحاً له في انتخابات أيار القادم، مما يشير إلى أنه قد يدعم كليجدار أوغلو بعد الحوار المفتوح بين الحزب والتحالف.

استطلاعات الرأي

أشارت آخر استطلاعات الرأي التي أجراها “مركز جنار” للأبحاث المستقل، إلى أن حزب العدالة والتنمية حصل على 40.7%، وحزب الشعب الجمهوري 23.1%، وحزب الجيد 7%، وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي 10.8%، وحزب الحركة القومية 7.6%، وحزب البلد 4.7%، وحزب الرفاه الجديد 1.4%.

وأكد عضو هيئة التدريس بجامعة رجب طيب أردوغان بمدينة ريزا أنه “رغم واقع المعارضة التي ليست لديها وعود معقولة، باستثناء الوعد بنظام سياسي غامض ومعقد، فإن الصعوبات الاقتصادية التي شهدتها تركيا مؤخراً تعد أكبر عقبة قد تواجه أردوغان في الانتخابات”.

بينما رأى الباحث الأكاديمي في الشأن التركي حسين العلي، أن نقاط قوة أردوغان هي خبرته التنظيمية والإدارية الطويلة، منذ أن كان رئيساً لبلدية إسطنبول عام 1994.

ونتيجة لهذه الخبرة قد يشعر كثير من الناخبين بالثقة فيه، إ        ضافة إلى أنه يستند على قاعدة حزبية قوية.

ولفت العلي إلى أن الهوية “القومية المحافظة الإسلامية” لأردوغان وحزبه، تجعله يحظى بدعم شريحة عريضة من المجتمع التركي.

ومع كل تداخلات هذه الانتخابات وتعقيداتها، يستبعد الخبراء إمكانية حسمها من الجولة الأولى.

حيث يصعب على أي حزب أن يحصل على أكثر من 50% من أصوات هذه الجولة.

انتكاسات انتخابية

شكّل رفض وزير المالية السابق محمد شيمشك الانضمام إلى إدارة رئيس النظام التركي انتكاسة انتخابية كبيرة لجهوده الساعية إلى حشد التأييد قبل الانتخابات المقبلة.

وكانت قيادة الحزب تراهن على أن عودة الوزير السابق، الذي يعتبر أحد أبرز الاقتصاديين الأتراك، ستعزز فرص الحزب بتحسين الصورة الاقتصادية القاتمة في البلاد.

كما ألقى الهجوم المسلح على مقر “حزب الجيد” المعارض، بظلاله على الرأي العام في تركيا، حيث حمّلت زعيمته ميرال أكشنار رئيس النظام التركي مسؤولية الهجوم.

وقالت من أمام مقر حزبها الذي تعرض للهجوم في إسطنبول، “يا سيد أردوغان، لقد تم اليوم الاعتداء بالسلاح على مقر الحزب في إسطنبول، فلتسحب تلك الرصاصات المصوبة تجاهنا ودعك من التهديدات”.

وأضافت في مؤتمر صحفي “أنا لست خائفة يا طيب بيه، لقد أصيب حزبنا بتهديد رجب قبل الانتخابات بشهر ونصف”.

ووجهت خطاباً للنساء بقولها “كل أنواع الإهانات والقذارة والاشمئزاز التي لا يمكن إلحاقها بالسياسي، تعرضت لها، لأنني امرأة”.

وطالبت النساء بالوقوف بوجه هذه الأعمال غير القانونية، من خلال التصويت لتحالف الأمة في الانتخابات المقبلة.

وكان رئيس النظام التركي قد استهدف أكشنار في بث تلفزيوني نهاية الشهر الماضي بسبب انتقادها لسياسته بعد الزلزال، وخاطبها بقوله “احترسي من اسمنا، اسمي طيب، ولقبي أردوغان، احترسي من أردوغان أيضاً وانتبهي لاسم طيب”.

وردّت المعارضة البارزة على رئيس النظام التركي، بقولها “لن نركب القطار إذا كنا خائفين من الحديد”، وأشارت إلى أنها المرة الثالثة التي يهددها بها أردوغان.

ولا شك في أن تهديدات رئيس النظام بهذه الطريقة الفجة، سيؤثر بشكل أو بآخر على شعبيته.

مأزق جديد

ليس من فبيل الصدفة أن يقدم رئيس النظام التركي موعد الانتخابات التركية إلى الرابع عشر من شهر أيار القادم، بل جاء التقديم من خلال أجندة سياسية طالما استخدم أردوغان وحزبه من خلالها رمزية هذا التاريخ وما تلاه من أحداث.

ففي الرابع عشر من شهر أيار عام 1950، جرت أول انتخابات ديمقراطية في تركيا الحديثة بعد أكثر من ربع قرن من حكم الحزب الواحد والزعيم الأوحد كمال أتاتورك، الذي أسقط الدولة العثمانية سنة 1924، بعد أن استمرت لما يقارب 600 سنة، وبقي في السلطة منذ تشكل الدولة الحديثة حتى وفاته.

وجاء بعده الجنرال عصمت إينونو الذي أصبح رئيساً للوزراء بعد استقالة جلال بيار وانشقاقه عن الحزب الحاكم “حزب الشعب الجمهوري”، وأسس مع عدنان مندريس وآخرين “الحزب الديمقراطي” الذي نجح في حصد أغلبية مقاعد البرلمان، وشكّل حكومة برئاسة عدنان مندريس، وانتخب البرلمان جلال بيار رئيساً للجمهورية، وبدأت محاولات إبعاد العسكر عن السياسة، والتأسيس لنظام حكم برلماني.

ولكن حزب الشعب الجمهوري الذي فشل في العودة إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع على مدى عقد من الزمن، لجأ إلى كبار ضباط الجيش واقنعهم بوجوب التخلص من الحكومة،

مما دفع الجيش إلى القيام بأول انقلاب عسكري عام 1960على أول حكومة منتخبة ديمقراطياً في تاريخ تركيا الحديثة.

ولطالما ألمح أردوغان إلى أنه امتداد لمندريس، بهدف كسب التعاطف الجماهيري وإرسال رسالة تحذير إلى العسكر.

وهو ما قد يدخل تركيا في مأزق جديد، إذ يعني فوز مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو، العودة إلى النظام البرلماني.

أما فوز أردوغان وحلفائه بالانتخابات فيعني تكريس منظومة الحزب الواحد والزعيم الأوحد،

وفي حال خسارته من المستبعد أن يقبل أردوغان بالهزيمة، وقد يتصرف مع كليجدار أوغلو وحكومته بطريقة تشبه بشكل أو بآخر، تصرف عصمت أينونو وحلفائه مع مندريس وجلال بيار بعد انتخابات 14 أيار عام 1950.