لكل السوريين

الثقافة في سوريا خطوة إلى الامام وعشرة إلى الخلف

في ظل ما شهدته سورية وتشهده، من خراب ودمار، وغلاء في الأسعار.. كان من المتوقع أن تنتعش الثقافة بشكل مُضَّطرِدٍ. إلا أن ذلك الأمر لم يتم إلا بشكل سيء للغاية. حالة من انعدام الأمل يشغل الحيز الثقافي في دمشق خاصة، وفي سوريا على وجه العموم.

فغياب المحاضرات والندوات، وإغلاق المكتبات، وإهمال الأماكن الأثرية، واختفاء الثقافة.. كلها حالات لا تسمح بالوصول إلى مبدأ التعايش والتسامح، ونحو تجاوز الأزمات اليومية والمشكلات الكبرى، بل وبناء ثقافة جديدة تشمل الجميع.

وسبق ان دعا المركز الثقافي في العدوي بدمشق، إلى الاستماع إلى محاضرة بعنوان: “المصطلح السائد بين الوهم والحقيقة”. ويوحي بموضوع هام، وبحث شيّق ومفيد، وبمنهج علمي للتفكير. لأن ضبط المصطلحات، أصبح علماً قائماً بذاته.

مع بدء المحاضرة؛ كانت المفاجأة أن عدد الحضور لم يتجاوز خمسة أشخاص. أربعة إعلاميين، ونفر آخر. يجلسون في مكتب مديرة المركز، يتبادلون الحديث، ونظرات الحَرَج، والحالة الكارثية التي وصلت إليها الثقافة، وبخاصة، المحاضرات أو الأبحاث ذات الطابع العلمي والأكاديمي.

واتخذ الحديث طابعاً تهكمياً طريفاً، ودخلنا في مقارنات بين الثقافة الجادة والثقافة الاستهلاكية، والحال المأساوي التي وصلت إليها الثقافة وطريقة تفكير وأولويات الناس، في هذه الظروف الاستثنائية التي تمر بها سوريا. علماً أن حصة الثقافة في سوريا، كانت قد بدأت بالتراجع منذ زمن ليس بقصير, حيث داهم الناسَ زمن استهلاكي، وثقافة جديدة بدأت تظهر وتتسع في المجتمع السوري، مترافقة بتغيرات هامة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

مما ضغط على الناس فألزمهم استبدالات هامة في أولويات الحياة, وتغييرات حاسمة, في البنية والسلوك. كان ذلك قبل الحرب التي اجتاحت سوريا من أقصاها إلى أقصاها, وخلفت ما خلفت من كوارث وفكفكة في صميم البنى الاجتماعية والثقافية, وساهمت في تشظي المجتمع السوري, وبعثرته في كل الاتجاهات, كما ساهمت في الوقت نفسه في إعادة ترسيم الحدود, وتعزيز التخوم التي كانت قائمة أصلاً في مناطق وجوانب أخرى.

لم تكن خيبة أمل الأخوين الباحثين “غسان الحميد”, وشقيقه الدكتور “أحمد الحميد” هي الأولى في الوسط الثقافي في سوريا. فقد عرفت الكثير من هذه الخيبات, التي تدلل وتظهر ابتعاد الناس عن الهم والشأن الثقافيين, مطاردين بهموم الحياة الكبرى, التي وصلت مؤخراً, إلى صعوبة تأمين لقمة العيش, وانشغال الأسرة كاملة, في الحديث عن تأمين طعام الغد, فكيف لوضع شاق ومخيف كهذا, كيف له بأن يسمح للثقافة أن تحيا وتتمدد, وتكون هماً مجتمعياً وإنسانياً ملحاً وضرورياً؟

الباحثان غسان الحميد وأحمد الحميد

يقول الرجل الوحيد الذي حضر للاستماع إلى المحاضرة، وهو رجل في الستين من العمر، ويحب القراءة، وحضور الندوات: “لقد شهدت بنفسي الكثير من المحاضرات التي لم يتجاوز جمهورها عدد أصابع اليدين. وفي بعض الأحوال, أصابع اليد الواحدة, كان ذلك قبل المأساة السورية, كما نلاحظ زحف التصحر الثقافي الذي يضرب المجتمع السوري”.

ويستشهد بمعرض الكتاب, الذي كان حديث الكثيرين من الناس في وقته, من غير الطلبة وأساتذة الجامعات والمهتمين والمشتغلين بالثقافة, فكان يتعدى تأثيره تلك الدائرة, ليصل إلى المنازل وربات البيوت, اللواتي يجدنها فرصة لهن للخروج, واقتناء بعض الكتب, التي سمعن عنها, ولم يتسنى لهن قراءتها, فيذهبن لاقتنائها.

ويضيف: “كان المعرض سابقاً عبارة عن تظاهرة ثقافية كاملة. فإلى جانب العدد الكبير من دور النشر, والتنوع الكبير في العناوين والإصدارات, مترافقاً ذلك بسلسلة من المحاضرات, يلقيها إلى هامش المعرض, باحثين ومفكرين, من مختلف البلاد العربية, في الثقافة والمجتمع والسياسة والاقتصاد, فها هو المعرض يحتجب هذا العام. ومكتبات دمشق وسوريا تغلق الواحدة تلو الأخرى, ويتقلص عدد الحضور في الندوات والمحاضرات, يوماً بعد يوم, ويصبح اقتناء الكتاب, ترفاً ما بعده ترف”.

بعد المحاضرة، تحدث الباحثان الشقيقان بحرقة وأسى, حول تعبهما والجهد الذي بذلاه, وهما يعدان لهذه المحاضرة, والعنوان اللافت والهام عن المصطلح. وتحدثا شارحين فهمهما للمصطلح. وقد أشارا إلى قِدم المصطلح في الثقافة العربية. حيث تحدث عنه الجرجاني والخوارزمي وابن منظور وآخرون كثر, كما تحدثا عن القيمة والأهمية الكبرى في ضبط المصطلح لغة ومفهوماً, كشرط لابد منه للدخول في دائرة العلم والمعرفة.

ليس هذا وحسب. فاليوم، يشهد المناخ الثقافي حالة من الثقافة السكونية والميتة، تصل إلى إغلاق المكتبات. إغلاق يُنذر باختفاء الهوية الثقافية الجماعية (مكاناً وزماناً)، ولا تعويض بحالة ثقافية جديدة تلوح في الأفق.

قبل أيام قليلة، ودَّعت مكتبة نوبل اسمها وزوَّارها. وقبلها مكتبة ميسلون التي تحولت إلى مركز صرافة زمزم، ثم مكتبة اليقظة، الواقعة بين مقهى هافانا ومقهى الكمال، والتي أصبحت متجر أحذية، ثم مكتبة الزهراء، ومكتبة الذهبي في الشعلان التي تحولت إلى محل بيع فلافل. والسؤال هو: ماذا بعد!؟