لكل السوريين

دُمّرت مرات عديدة، ولا تزال شامخة.. قلعة جعبر “الدوسرية” رئة الفرات اليسرى

إعداد/ الباحث محمد عزو

تقع قلعة “جعبر” على الضفة اليسرى لنهر “الفرات” كعنقود نجمي تحكي قصتها عبر التاريخ تزين “الفرات” وضفافه، تقع القلعة شمال غرب مدينة الطبقة (تباكوس) الواقعة على الضفة اليمنى للبحيرة، ويربطهما طريق معبد يبعد 15 كم عن مدينة “الطبقة”.

وتبعد القلعة مسافة /65 كم/ عن مدينة “الرقة” غرباً، و20 كم عن سد “الفرات”، وهي تتربع فوق هضبة صخرية من الكلس الحواري الهش، على الضفة اليسرى لنهر “الفرات” مطلة عليه من الجهة الجنوبية.

نظراً لأهميتها التاريخية حسب التنقيبات الأثرية التي جرت فيها، ورأي أكثر العلماء أنها مرت بمرحلتين تاريخيتين أولهما الفترة السابقة على الإسلام وكانت تسمى قلعة “دوسر”، ثانيهما المرحلة العربية الإسلامية تنسب إلى “جعبر بن سابق القشيري” الملقب بـ “سابق الدين”، ومعلوماتنا عنه نادرة.

ويقال إنّهُ كبر وفقد بصره، ويزعم بعض المؤرخين كان له ولدان يقطعان الطريق ويخيفان عابري السبيل، وليس لدينا معلومات تفيد ماذا عمل هذا الشخص طوال فترة حكمه للقلعة، وكل الذي نعرفه أنّه ظلّ مسيطراً عليها حتى أخذها منه السلطان السلجوقي “ملكشاه بن ألب أرسلان” سنة 479ه 1086م.

ويقول ابن “خِلكان” في كتابه “وفيات الأعيان” (أنّ “دوسر” غلام “النعمان بن المنذر” ملك الحيرة، كان قد تركه “النعمان” على أفواه “الشام”، فبنى له هذه القلعة فنسبت إليه)، وكانت القلعة منذ القرون الثلاثة السابقة على الإسلام مقراً للأقوام العربية المضرية التي كانت تسيطر على منطقة” الرقة”، وبذلك، فالقلعة بناها العرب قبل الإسلام، وهم الذين شيدوها أيضاً في الفترة العربية الإسلامية، ومما تقدم يبدو أنّ للقلعة اسمين اثنين، ويقعان في فترتين متباعدتين ومختلفتين، والاسمان هما “الدوسرية” ويرجع تاريخها إلى الفترة السابقة على الإسلام، و”جعبر” ويرقى تاريخها إلى القرن الخامس الهجري.

يبدأ التاريخ الواضح لمعلوماتنا عن هذه القلعة، اعتباراً من بداية سقوطها في يد السلطان السلجوقي “ملكشاه” عام 479ه 1086م، الذي استولى عليها وهو قادم من” أصفهان” إلى “حلب” للاستيلاء عليها، وتقول الروايات أنه حاصرها يوماً وليلة فتم له فتحها، وقتل من بها من بني “قشير”.

وحين وصل “ملكشاه” إلى مدينة “حلب” استولى عليها وكان متحصناً في قلعتها “سالم بن مالك بن بدران” الذي امتنع في البداية عن تسليمها إلى السلطان، لكنه ما لبث أن سلمها له وعوضه عنها بقلعة “جعبر” على “الفرات”، وأقطعه معها “الرقة” ومجموعة من القرى التابعة لها.

ظلت القلعة في يد” سالم بن مالك” حتى وفاته في العام /519هج/، حيث ملكها من بعده ابنه المدعو” مالك”.

ويقال إنّ القلعة في زمن “مالك” ومن قبله والده، كانت ملاذاً لكثير من الأمراء والحكام في ذلك الزمن مثل،” صاعد بن بديع” صاحب” حلب” سنة 507ه، والملكين “سلطان شاه” و”إبراهيم بن رضوان” سنة/ 515/هج وغيرهم.. وعلى أثر وفاة صاحب القلعة “مالك”

، ملكها ابنه” بدران” ، ويقال إنّ والدته جارية اسمها “ماريا” تزوجها والده فأنجبته، ويقال إنها خرجت عن طوع بيتها فواعدت قوماً من الإفرنج، وهربت من القلعة ليلاً بواسطة الحبال بعيداً عن عيون حرس القلعة إلى “سروج” فتزوجت هناك إفرنجياً إسكافياً، وابنها كان أميراً وصاحب قلعة” جعبر”، ولسنا ندري في أية سنة كان “بدران” حاكماً وصاحباً للقلعة أو سنة وفاة والده “مالك”، ثم تؤول القلعة إلى “علي بن مالك بن سالم”.

ويقول المرحوم “عبد الرزاق زقزوق” مدير آثار “حماة” الأسبق ولا نعلم أيضاً في أي سنة امتلكها، لكن كل الذي نعرفه أنه على وجه التحديد في سنة /541ه 1146م/ حوصرت القلعة، وظلت تحت حكم “علي”، من قبل “عماد الدين زنكي” الذي قتل على أبوابها على يد أحد غلمانه ليلة الرابع عشر من شهر سبتمبر/ أيلول سنة /1141م/.؛ وفي السياق ذاته في عام /564هح/ /1168م/ تمكن “نور الدين محمود زنكي” من الاستيلاء على القلعة من صاحبها “شهاب الدين بن مالك بن علي بن مالك”. وحسب “ابن الأثير” كانت القلعة في هذه الفترة من أمنع القلاع العربية في سورية.

عندما قامت الدولة الأيوبية دخلت القلعة في ظلها، ومن أهم أمرائها في تلك الفترة الملك” الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل” الذي ظل يحكم القلعة مدة /42/ عاماً. وتتابعت المسؤولية عنها في العصور المختلفة.

وعن الحالة المعمارية لقلعة “جعبر” أبانت التنقيبات الأثرية أنها تتربع فوق هضبة كلسية هشة قابلة للتفتت والانحلال مجرد ملامستها بالماء، وترتفع القلعة /347م/ فوق سطح البحر، وتبدو القلعة للناظر على هيئة قطعة من الفطر، وذلك لتأثرها بالرياح والأمطار وخاصة عند القاعدة إذ تآكلت حوافها وأصبحت على ما هي عليه الآن.. للقلعة شكل بيضوي من الأعلى ويبلغ طولها من الشمال إلى الجنوب/320م/، ومن الشرق إلى الغرب /170م/، ويحيط بها سوران ضخمان، يضمان مجموعة من الأبراج يبلغ عددها /35/ برجاً ذات أشكال مختلفة، فبعضها مربع الشكل، وبعضها الآخر على شكل مسدس أو مثمن أو نصف دائري، وهناك المسجد الجامع، ولهذا المسجد مخطط مستطيل الشكل يتربع في وسط القلعة تقريباً، وقد شيد من مادة الآجر المشوي من نوع آجر “الرقة” على أساسات من الحجارة الكلسية الهشة المجلوبة من مقالع حجرية محلية.

يتكون هذا المسجد من صحن، في الوسط محاط بأروقة أكبرها رواق القبلة، وله مئذنة أسطوانية الشكل تتربع على قاعدة مربعة بنيت من الحجر الكلسي، في أعلاها كتابات عربية ضمن حقل دائري الشكل، وهي تعاني من ميلان بسيط، كما أن هذا المسجد مزود بخزانات مياه للشرب تشبه تلك التي تم الكشف عنها في مدينة – الفار (معسكر القائد العربي مسلمة بن عبد الملك) الأثرية الواقعة شمال مدينة “الرقة” قرب قرية “حمام التركمان”.. أما مبنى حاكم القلعة وحاشيته، فهو يقع في الجهة الجنوبية الغربية من القلعة، حيث يتربع بناء واسع الأرجاء يطل على الفرات مباشرة، ويضم هذا المبنى أقساماً معمارية مهمة، لعلها بيوت أمير القلعة وحاشيته.

وينقسم هذا المبنى الكبير إلى عدة غرف وممرات متشابكة مع بعضها بعضاً، وهي مشيدة من مادة القرميد – نوع “الرقة”، وأرضياتها مرصوفة ببلاطات من القرميد على شكل زخارف هندسية بديعة الشكل وجميلة المنظر.

بقي أن نشير إلى أن قسماً كبيراً من أجزاء هذا المبنى ما يزال تحت الأنقاض، وأنه لابد من إجراء تنقيبات أثرية في أي وقت كان لكشف كامل أقسام المبنى الأميري والأبنية الأخرى المتبقية.

في إطار الحملة العالمية لإنقاذ آثار حوض “الفرات” بعد عام/1970م/، جرت تنقيبات أثرية في محيط القلعة، فتمّ العثور على مجموعة من المدافن المنحوتة في السفح الغربي من القلعة ومعظمها يرقى إلى العصر “البيزنطي” . كما قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بـ “دمشق” بإقامة سياج اسمنتي مسلح على كامل محيط القلعة لتدعيمها وحمايتها من مياه البحيرة.

وكانت الخطوة الثانية التي خطتها المديرية العامة للآثار والمتاحف هي قيامها بأعمال الترميمات الأثرية للأسوار وكافة المنشآت المعمارية.

وخصصت المديرية العامة للآثار والمتاحف أحد أبراج القلعة كمتحف يضم الآثار الإسلامية المكتشفة في القلعة، وقد تمت سرقة كامل محتويات هذا المتحف من قبل الجماعات المسلحة التي احتلت القلعة إبان الأزمة السورية وبعض المكتشفات الأخرى من منطقة الغمر، كما تم نقل بعض المدافن الرومانية إلى القلعة مثل مدفن “عناب السفينة” الروماني.