لكل السوريين

العبارة.. السوق المركزي لحلب في النصف الثاني من القرن العشرين

حلب/ خالد الحسين 

العبارة هي سفينة صغيرة تنقل الناس وقت الفيضان من طرف الى طرف، ومع تعيمق النهر عام 1948 ,خفت حدة الفيضان لذلك تحولت المناطق اللحقية الى اراض صالحة للبناء، واقتصر الفيضان على الحديقة العامة فقط، حيث غمرها الفيضان آخر مرة عام 1969 ,ووصل الماء الى منتصف الدرج الرئيسي من جهة مجوهرات بونجة وهنالك مجموعة صور للحديقة العامة مغمورة بالمياه عام 1969.

البناء التجاري الحديث في الخمسينات اعتمد على ممرات تجارية تحت الابنية وسميت هي الاخرى عبارة لأنها تجعلك تعبر من شارع الى شارع تحت سقف، وكذلك يمكنك التسوق في الظل، وهذه عادة تفردت فيها حلب بأسواقها المغطاة التي تساعد الزبون على قضاء أكبر وقت ممكن في التسوق، وبالتالي تدوير المال وزيادة معدل التداول والنمو الاقتصادي.

لكن تجار العبارة الاوائل واصحاب هذا المشروع الناجح كان لهم دور كبير في القضاء على الطرماي، وذلك لكي يجعلوا جب القبة منطقة معزولة بحيث يتجه الناس الى العبارة للتسوق بدلا من جب القبة، واستماتوا من اجل انشاء الميشية القديمة واستيراد الباصات، وكذلك اقاموا اول سرفيس في حلب ينقل الناس من الميدان الى العبارة بعيدا عن خط طرماي ميسلون.

وبالتأكيد فإن فكرة الباص والسرفيس فكرة رائعة، لكن كان يجب إن تساند الطرماي وليس أن تقضي عليها.

ومع تضخم المدينة اصبحت كمية الكهرباء التي تنتجها محطة الطرماي غير كافية لإنارة المدينة، فبدأت الكهرباء تنقطع عن الطراماي لصالح الانارة، فاستغل التجار (بالتعاون مع مسؤولين فاسدين) هذا التوجه ونهضت تجارة المصابح والادوات الكهربائية على حساب كهرباء الطراماي، ولم يسعى هؤلاء الى توسيع محطة انتاج كهرباء عين التل الا في نهاية الخمسينات.

وكان مكان العبارة قبل بنائها مقبرة تدعى تربة العبارة، وهذا دليل آخر على ان اسم العبارة لا علاقة له بالبناء وانما له علاقة بالسفينة العبارة للفيضان.

وتقسم العبارة الى قسمين يفصلهما شارع عريض مقسم الى ثلاث حارات، احداهما ضيقة وهي الشمالية، وخصصت لسرفيس الميدان.

نهضت العبارة الجنوبية وتخصصت بتجارة الكهربائيات وسميت بعبارة الحمراء نسبة لسينما الحمراء، اما المحلات على الشارع فإنها تخصصت بالأحذية الرجالية.

العبارة الشمالية بقيت في حالة كساد ولم تتفتح محلاتها وسميت بالعبارة الجديدة، وبقيت كذلك حتى بداية التسعينات، حيث بدأت فيها تجارة متعلقات الكهرباء الصناعية مثل الكوندكتور والريلية والحساسات الحرارية وال plc ,وتعتبر اهم اسواق سوريا في هذا المجال ،وكثر المحلات مع انتشار معامل البلاستيك ،لتأمين وشائع الريسيتانس اللازمة لإذابة البلاستيك.

وبقي قبو العبارة الشمالية شاغرا حتى افتتاحه بعد عام 2000 ,وشغله باعة البسطات الذين كانوا يبيعون في الشارع الجينزات التهريب والاحذية، وهؤلاء نمط مغاير عن تجار حلب، فهم لا يتحلون بروح التاجر الحلبي الموثوق، بل مجموعة من الكشتبانجية وسفهاء الأحلام، شكلوا طبقة جديدة من التجار المهربين ظهرت في الثمانينات، وكان مركزهم في حي القطانة، ونشطت فيه عصابات التهريب، فقد كانوا يحضرون من لبنان مواد مثل القهوة والشاي والدخان والجينزات والتلفزيونات الملونة واجهزة الفيديو.

وعندما نهضت صناعة الالبسة السورية في التسعينات كسد سوقهم فتحولوا إلى قبو العبارة وفتحوا محلات، لكن اخلاق المهرب كانت تطغى عندهم على أخلاق التاجر، فهم غشاشون وكثيرو المشاجرات ووشاة لا يمكن الوثوق بهم.

العبارة مكان ذكوري بامتياز، لا تثق المرأة فيه، كما ان العبارة لا تقدم للنساء أي خدمة، لذلك تجفل منها النساء إلى التلل، حيث تجدن ما تبحثن عنه.

في العشرين سنة الأخيرة قبل الحرب نهضت أسواق لامركزية في حلب ونافست العبارة والتلل، وأشهرها شارع سيف الدولة الهادئ والذي تحول الى سوق عامر مزدحم، وشارع النيل أصبح شارعا للماركات والبضائع عالية الجودة وسوق الأشرفية الذي كان بحق من أفضل أسواق حلب من حيث الجودة والاسعار المنافسة وحسن المعاملة، وسد اللوز الذي انطلق من محل واحد يملكه تاجر يثق فيه الناس وهو المعرستاوي ليتحول إلى أكثر أسواق حلب شعبية واكتظاظا.