لكل السوريين

عندما يغيب الفحول!

من الناس من يسوؤهم أن نعمل لأنهم لا يعملون، ولا يحبون العمل لأنفسهم ولا لغيرهم في أي حقل من حقول العطاء، ومن الناس إذا عملت وأبدعت في عملك على درب العطاء، حيّوك وأثنوا عليك بما تستحق، لأنهم يعملون ويهمهم أن يعمل الناس.

ونحن معشر الذين نحب أن نعمل، ويعمل الآخرون، قد ابتلتنا المصيبة (أجارنا الله) بعيّنة شاذّة من النقاد السلبيين لا يفتأ الأدب نثره وشعره يستغيث منهم بالمنصفين من القرّاء والمتذوقين ويستجير يائساً.

أسوق هذا الكلام في أعقاب الحملة الظالمة التي كان قد شنّها أحد النقاد على شاعر معطاء بمناسبة صدور ديوانه الشعري، فكان من الغرابة المضحكة أن ترك الناقد ديوان الشعر، وسلط قلمه ولسانه على الشاعر.

إنّه لمن الافتئات على العمل الفني وأد الموضوعية وذبحها على عتبة الغرض الشخصي، تشفّياً ومكابرة على الحقيقة في رابعة النهار.. فإذا تساءل المتسائلون عن سبب ظهور هذا الناقد الطرزاني واضرابه في ساح الأدب نجد أن الأزمة الضيّقة في الساح تبرز أمثاله حين يغيب الفحول وتنعدم الأصالة وتتلاشى القيم، وتستنسر البغاث بأرضنا!

هذا النقد الذي كان تجريحاً من الناقد بالشاعر كمال فوزي الشرابي، وأما عن ديوانه (قبل لا تنتهي)، فيطيب لنا أن نتذكر المثل الدارج ونحن نلمس قسوة النقد الشخصي ازاءه:

(مزمار الحي لا يطرب).

فلو كان هذا المزمار من غير هذا الحي لأنزله الناقد منزلة القداسة ولقال: لمثله يجب الركوع والسجود.

(قبل لا تنتهي)، ديوان شعر رحب كالحديقة الظليلة، معلقة في تلاع الطبيعة، ممرعة، سكب الربيع عليها فوح شذاه، وألبسها الخيال فن الصورة، وروعة الفكر، وأصالة المعنى، لبوسات شتى من جمال الكون والفن والحياة.

كن جميلاً تر الود جميلا.. كذلك حال لسان شاعرنا الشرابي وما على لسانه غير قلب أضناه الشوق وبعثره الحنين حبّات من لآلئ يُضفّرها اكليل شعر في جيد الإنسانية.

فلم لا يكون كمال فوزي متفائلاً بسّاماً مقبلاً على الحياة.. ولمَ يريده ناقدنا ذاك متشائماً منهزماً معقداً ومدبراً عن الحياة؟

إنه لظلم كبير حين يتنطع النقد الموتور للنتاج الأصيل من غير ما رحمة ولا ترو ولا عدل.

(قبل لا تنتهي)، أغنية مموسقة حنون تترنم بها الشفاه الظمأى عبر رحلة العمر إلى ما لا نهاية.

وإني أحب لنفسي ترانيم الشعر وتسابيحه، ولا أحب فلسفته وفذلكته، وقد قيل في ذلك:

إذا الشعر لم يهززك عند سماعه…

فليس خليقاً أن يقال له شعر

وهاك هذه الهزّة الدافقة الراعشة من هذه القبل الماتعة:

واحنو لأبصر بحر الضياء

يموج على لهب المقلتين

وكل تلاوين رحب السماء

تشعّ مع الحب في الوجنتين

إنّها لسلاسة واستطراد ما بعدهما سلاسة واستطراد..

فقد كفانا تعقيداً في الشعر ورمزية فوضوية، وتهاويل.

فالبساطة والوضوح هما أرومة الشعر الذي يلامس شغاف القلب دونما استئذان وحيا الله شاعرنا النجفي حين قال:

تفلسفَ في اكتناف الشعر قوم…

فضاع الوقت وامتدّ الطريق

فدع عنك التفلسفَ واروِ شعراً…

فلي عين ترى وفم يذوق

إنّ عيوننا قريرة من رؤية حرفك، ونفوسنا رضية من روى شعرك، وإنا لنتلمظ من ذوب طعم كل كلمة أنطقتها شعوراً، ووقفت بديوانك في مشارف النور، تحمل إلى النفوس المتعبة، والقلوب الكسيرة الحب والخير والضوء والابتسام.

فما حيلتنا إذا كان مزمارك يطرب حتى الذي لم تتعود أذناه على ذوب النغم ينسكب فيهما.. وما حيلتنا ازاء الجمال والحيوية ينبضان في ديوانك كقلب عذراء يمعن وجيبه في الخفقان.

فمزمار شعرك يطرب شاء المغرضون أم أبوا:

ما همّني ان كفّنت كل الثلوج عوالمي

أو أحرقت سود الرياح كواكبي، ومواسمي

أو جن اعصار الطبيعة حول بيتي الحالم

أو طاف بي حزن الشتاء

وبكى بقنديلي الرجاء

ما همّني ما دُمتِ قربي توقدين عزائمي

ما همّني إن عريت بيد الخريف مواسمي

ما دمت أحيا من عطائك

شعر كمال ترى فيه بساطة في قوة، ووضوح في طلاقة، وانسياب في عمق، وأبعاد تخرج من القلب لتدخل إلى القلب.

ويشدو مترنماً:

وحتى إذا غنينا …

في الرحلة النشوى

عدنا كما كنا …

نيراننا أقوى

روحنا ملأى…

بالشوق والنجوى

فهو يجسّد الحب ويقولبه في أطر من القوة والصمود في وجه الهوى الباكي؟. فما أحوجنا على الحب السخي حاجتنا إلى الحياة.. وليس بالخبز يحيا إنساننا المعاصر للمناقب والثائر على المثالب.

نتساءل دائماً: لمَ لا يطربنا مزمار الحي؟ وما النقد إلا معاناة متمرّسة في التقييم، فلم يسوء ناقدنا أن يقول كلمة الحق، ولمَ يركّز الناقد على عمر الشاعر ومعيشته ويتساءل عن شؤونه الصغيرة وكأنه يريد أن يسأله ما هو لون ربطة عنقك؟ ولا يكلف نفسه استقراء ما بين دفتي الديوان؟

يظل عزاءنا الوحيد وجود بعض النقاد المنصفين المتمكنين بين ظهرانينا، ممن يضعون أيديهم على ضمائرهم قبل أن يضعوها على خناجرهم يمعنون بها طعنا وتجريحاً؟

وأخيراً ..قبلة نطبعها بإعجاب على جبين الشاعر الشرابي..

 

عبد الكريم البليخ