لكل السوريين

تركي رمضان:القارئ هو الرصيد الحقيقي والباقي للأديب

 عبد الكريم البليخ

يُباغتك بحديثه المشوّق، وبالرقيّة المحكية، يُجيبك عن مسألة بعينها بحاجة للإيضاح، وهو العارف بناصية الأمور.

ويتسع صدره للحوار، ولطالما يقف على مشكلات الزملاء الصحفية، الذين يستأنسون برأيه الصائب، لا سيما أن لديه خبرة واسعة الاطلاع على الكثير من القضايا التي تهمهم، أضف إلى أنّه يمتلك خبرة غنية في الحياة العملية، ويشاركُ الناس همومها، وإن كان ذلك في نطاق ضيّق جداً، بسبب وضعه الصحي، ما يجعله مبتعداً كلياً عن اللقاء بهم خشية السؤال عن مشكلة معينة تعرّضه للمساءَلة.

وسبق للكاتب والصحفي الراحل تركي رمضان وأن كتب العديد من المواد الصحفية المتميّزة، كان الكثير منها دفاعاً عن الحيوان، وفي روايته “برج لينا”، وقصصه القصيرة نجد دائماً الرحمة بالحيوان، مثل مشهد الغمر في الرواية، ومنظر الحيوانات التي تركها أصحابها، وكثير من ذلك، ويقضي جلَّ وقته في مكتبته الخاصة.

أول قصة قصيرة نشرها في “صوت المعركة” وهي نشرة كانت تصدر عن لجنة الدفاع عن الوطن، وحماية الثورة، وكان حينها في السابعة عشر من عمره، ثم خلال العمل في سد الفرات كان يُشارك في الأمسيات الأدبية، والنشر في جريدة الجماهير في صفحتها الثقافية التي تصدر في مدينة حلب، وفي باقي الصحف السورية.

وإن لازمته العزوبية، واستمر في تطليقها، طوال فترة الحياة التي كتب له ما كتب العيش فيها.. وكان يعيش بعزلة تامة عن الناس بعيداً عن أي علاقة اجتماعية، حتى أنه كَتبَ في إحدى المرات قصة قصيرة تحكي معاناته، ونشرت في مجلة العربي الكويتية، في شهر آب لعام 2001 بعنوان “صمت الجدران”، وكانت رداً على الأصدقاء الذين يتهمونه، أو الذين يدّعون، أنَّ ليس له علاقة بالقصة، وإنهم لم يقرؤون له شيئاً، وكانوا يطلبون منه ولو قصة قصيرة في  جريدة “الرافقة” لكنه أصرَّ على إرسالها إلى مجلة “العربي” الكويتية، وكان نشرها مفاجأة بالنسبة لهم، لأن النشر في “العربي” هو اعتراف مهم.

أما رواية “برج لينا” التي صدرت عن وزارة الثقافة، فقد كانت ضمن 70 رواية لكتّاب من القطر قدمت للوزارة خلال عام 2004 حيث تمت الموافقة على روايتين فقط، واحدة للكاتب “فيصل خرتش” من مدينة حلب، والثانية “برج لينا” وذلك ضمن خطّة لجان القراءة في الوزارة في اختيار أعمال عالية المستوى.

وحالياً تتم ترجمتها للغة الروسية، بالتعاون مع الكاتب السوري عدنان جاموس.

وعن رواية “شمال الخط ” التي صدرت مؤخراً، فهي رواية مخطوطة وجاهزة للطباعة تقع في 400 صفحة من الحجم الكبير، وقد أمضى في كتابتها أربع سنوات، وأنها ستكون بدايةً مهمّة، لأنه كلّما أعاد قراءتها أُصيب بالدهشة، وكأنه يقرأها عملاً جديداً لغيره، ويعمل في كتابة رواية
جديدة أخرى.

وهناك أعمال غاية في الأهمية، والجودة، وتشعر أنَّ فيها نفساً إبداعياً، وهناك أعمال للإبهار فقط، وكما أنَّ هناك أعمالاً لزيادة العدد، لكنها لا تضيف شيئاً لا لصاحبها، ولا للأدب.

وهناك أعمالاً كتبت فقط للفائدة المادية، وكتّاب الرقّة في مجال القصة، والرواية تجاوزوا الـ 30 كاتباً بينما الذين تستطيع أن تقرأ لهم لايتجاوزون الـ 5 ـــ 6 كتّاب، وهم يعرفون أنفسهم، ومأخذه على هؤلاء أنَّ بعضهم يَخدعُ آخرين لإيهامهم بأنهم كتّاب، وهذا الاستسهال مضر وكريه!

وقد مارس الزميل تركي رمضان الصحافة منذ عام 1970 في دائرة الإعلام في “سد الفرات” حتى الأمس القريب، وفتح الباب أمام الكثير من الشباب لممارسة العمل الصحفي كمراسلين، عندما كان مديراً لمكتب جريدة البعث في الرقّة.

وكان يضم مجموعة من المراسلين الصحفيين للمكتب، الذي بدوره يقوم بإرسال المواد الصحفية التي يُعدها الزملاء، بعد إبداء الرأي عليها، إلى مركز إدارة الجريدة في دمشق، إلى قسم المراسلين، والذي كان يرأسه آنذاك الزميل الصحفي المخضرم ميشيل خياط، رئيس القسم، والذي استمر فيه لأكثر من عشرين عاماً، وكتب العديد من المواد الصحفية المتميّزة، ولاقت نجاحاً كبيراً، وكان في بعضٍ منها دورها في تغيير دورة الحياة.

وهو عندما كان يقرأ موضوعاً جيداً لأيّاً من هؤلاء يشعر أنه لا زال موجوداً من خلال هذه المواد الصحفية، لأن الصحافة لم تقدم له إلاّ المتاعب، وعندما تركها شعر براحة غريبة، ورجع للأدب.. حبه الدائم، الذي كانت الصحافة تَصرفّه عنه، ويعتقد بأن الإنسان طاقة، حتى الكتابة لا يمكن أن تكتب بضعة صفحات في اليوم في مواضيع صحفية، ويستطيع في نفس الوقت الكتابة في الأدب، وقيل أنَّ الصحافة هي مقبرة الأديب، ومثالنا في الرقة واضح، المرحوم “محمد جاسم الحميدي”، وينصح زملاؤه الصحفيين، أنَّ الكتابة الصحفية تأخذ الحيّز المخصّص للكتابة الأدبية في عقل الأديب، ووجدانه. المسألة مسألة طاقة على الكتابة، لكنه استطاع خلال فترة العمل بالصحافة التعويض بالقراءة.

وتراه معتزاً بنفسه، ويحتل من بين أصدقائه مكانةً أدبية وفكرية في مدينة الرقَّة التي ترعرع فيها، بعد أن قضى جلَّ حياته موظفاً بسيطاً في إحدى المؤسسات الحكومية الكبرى، مديراً لمكتبها الصحفي.

وهو من ألمع المجموعة الصحفية التي بدأت الظهور في ثمانينات القرن الماضي، وقد سبق له أن تناول العديد من المواد الصحفية، اقتصادية، وخدمية، وسياحية، اجتماعية، ثقافية، وحتى الأدبية منها بطابع مختلف عن بقية زملائه.

وبعد أن أنهى خدمته في الجريدة لفترة تجاوزت السنوات العشرين، التفت بعدها إلى كتابة الروايات والقصص القصيرة، وتأليف المسلسلات التلفزيونية، فانكب على الكتابة، مورد رزقه الوحيد، والتي تعد أنموذج حياة بالنسبة له، وعاش بمفرده في بيته المتواضع، بعيداً، وكما ذكرنا عن الزوجة والأولاد.

وإذا ما حاولنا أن نقف على شخصية الصحفي تركي رمضان، فهو مثقف جداً، رغم أنه لم يكمل مشواره الدراسي، والالتحاق بدراسة كلية الطب في إحدى الجامعات في الدول الاشتراكية، وقتئذ، وهو متمكن من عمله الصحفي الذي نجح وأبدع فيه، وله حضوره المميز في معارض التصوير الضوئي التي يُشارك فيها.

وهو إنسان متواضع جداً، بسيط في تعامله، يسحرك في كلماته، يحاول دائماً كسب الآخرين، وهو غير ممتن لأحد، كما أنّه يحب ممارسة رياضة المشي، فهو يقضي لا يقل عن ساعتين يومياً في ممارسة هذه الرياضة التي تدفع به نحو تحقيق ذاته، وتعيد إليه رغبته في الاستمرار في الحياة التي فقد فيها الكثير من الأماني والرغبات.

ولم يكن في يوم ما إلا محباً لعمله، ومخلصاً، وأكثر ما يعتبره مثله الأعلى في الحياة أخيه المرحوم رشيد رمضان، الذي شغل منصباً في الرقّة، في ثمانينات القرن الماضي، وكان له حضوره، وإن لم يكن في يوم ما يمثل صورة أخيه، رغم المركز القيادي الذي كان يشغله، وكل ما يهم حبه لعمله الصحفي، والتزامه في عمله الوظيفي، وخدمة الناس، ومعالجة قضاياهم، بهدف الوقوف عليها من قبل المسؤول.

ومن أهم المواد الصحفية التي نشرت له، وتركت بصمة في تاريخه الصحافي، مادة بعنوان “أهلاً بالضيوف” والتي نشرت في جريدة البعث السورية في العام 1993 أثناء احتضان الرقّة لمهرجان البادية الأول، وكانت مادة صحفية لها وقعها في النفس وتركت أثرها لدى كل من قرأها، ولامست احتفال الرقّة بهذا المهرجان الذي كان التميز في تحضيره، إلا أنَّ العاصفة المطرية التي رافقت أول أيام المهرجان، مع بداية انطلاقته، دعا ذلك إلى وقف برنامج المهرجان الغني والذي لاقى حضوراً غير مسبوق، والذي أقيم في مدينة الرّصافة الأثرية، ومن هنا كانت شارة البدء التي لم تكتمل!.

وإذا ما حاولنا أن نقف عند اهتماماته الأدبية والفكرية، فهو كان يمتلك مكتبة أدبية وفكرية تشتمل على أكثر من ألفي كتاب، وقرأ أعمال أدبية مهمّة جداً، وهذا أكثر ما يريحه، ويشفع له تقصيره بالكتابة، ويتمنى لو يستطيع كتابة الأعمال التي يَطمحُ إليها وتشغل كل وقته حالياً.

و قراءة الكتاب في سن الشباب فيها شيئاً من الاستعراض، والمراهقة، والشعرية، للإبهار، أما ما بعد مرحلة النضج فيها حكمة، وصدق، وجودة، وقليل هم الكتّاب الذين تركوا أعمالاً مهمّة.

وهو قارئ نهم، ومتابع لكل ما ينشر في الصحافة المحلية، كما كان من قرّاء مقالة الكاتب المصري المعروف أنيس منصور، رحمه الله، المنشورة في جريدة الأهرام المصرية، كما يتابع ما يكتب في بعض المجلات الثقافية والأدبية، ودرج على هذه العادة، حتى بعد أن تم إحالته على التقاعد، وله حضوره في الأمسيات الأدبية، وتراه دائم الانزواء على نفسه، لا يحب الظهور، فهو بعيد عن الأضواء، وما يهمّه أن لا يتسرّع الكتّاب الجدد في السباق نحو الألقاب كعدد الأعمال، أو عضوية الاتحادات، بقدر ما يكون تركيزهم على جودة العمل، واحترام القارئ، لأن القارئ هو الرصيد الحقيقي، والباقي للأديب.

وأكثر ما يهتم برعاية الحيوانات الأليفة، ومنها القطط، التي يرسم معها صوراً محببة لحياة طفولية، واهتمامه، بصوره خاصة بصغارها، وتدليله لها، ما يعني مدى طيبة قلبه المرهف، وحساسيته المفرطة، وعدم السماح لأحد الاقتراب أو المساس بها، لأنّها تُعد بالنسبة له كالأطفال الذين يملؤون البيت حركة ونشاط، ما يعني رضاه عن حركتها الأليفة، ونظرته إلى ذلك، فيه الكثير من السعادة التي افتقدها يوماً.