لكل السوريين

الذهنية الذكورية

يتردد ذكر مصطلح الذهنية الذكورية كثيراً وخاصة في المناسبات المتعلقة بالمرأة وحقوقها، ولكن هل هذه الذهنية تستهدف المرأة وحدها ؟ كلا نحن نتحدث عن نظام الذهنية الذكورية الذي يلقي بتأثيره على جميع مناحي الحياة والمجتمع والفرد والعلاقة السائدة بين الأفراد والمجتمعات وبين المجتمع والبيئة.

عندما كان المجتمع البشري يحيا على شكل كلانات (مجموعات) متنقلة كانت المرأة تمثل نواة الكلان أو المجموعة والأفراد الآخرون يتبعون لها، بينما مهمة الرجل فقد كانت الصيد لبنيته الجسدية أما القطاف فقد كانت مهمة الجميع، ونظراً لطبيعة المرأة التي تميل إلى الاستقرار والهدوء استقرت المجموعات في مجتمع مستقر بدلاً من المجموعات المتنقلة التي كانت سارية على مدى عشرات الآلاف من السنين. بينما المجتمع المستقر الأول فعمره بحدود عشرين ألف سنة حسب تقدير علماء الأنتروبولوجيا. والمجتمع المستقر يعني بداية الحضارة النيوليتية التي تتضمن الثورة الزراعية التي كان للمرأة دوراً ريادياً فيها حيث قامت بتدجين الحيوانات وبذرت البذور الأولى للزراعة، مما تسبب في فائض الإنتاج أي باتت المجتمعات أو المجتمعات تنتج أكثر من حاجتها الضرورية للبقاء.

نظراً للبنية الجسدية المتوفرة للرجل من ممارسة الصيد والقنص، وموهبته في التحايل والتمويه للإيقاع بفريسته، ونظراً لوفرة فائض الإنتاج، بدأ الرجل بإستخدام موهبته للإستيلاء على فائض الإنتاج، وعندما أراد الأفراد الآخرون تقاسم فائض الإنتاج معه إستخدم قوته الجسدية للإحتفاظ بما استولى عليه. وهكذا نما لدى الرجل ميوله لإحتكار السلطة والثروة، أما المكانة المركزية والقدسية التي كانت تمتلكها المرأة فقد دخلت في مرحلة الإنكماش والتراجع أمام تسلط الرجل وإحتكاراته. ففي العصر النيوليتي كانت القداسة والألوهية للمرأة، فكل الدراسات والهياكل والرسوم المكتشفة تدل على مكانة المرأة وقدسيتها.

مع تنامي وتوسع المجتمعات بدأت مرحلة الإنتقال إلى الحضارة السومرية، حيث استطاعت البشرية إختراع الكتابة والحروف وملحمة قلقاميش تمثل التاريخ المكتوب الأول التي وصلت إلى يومنا الراهن. والملحمة تمثل الأساطير والأوضاع التي كانت تسرد في تلك الحقبة، وتحكي الكثير عن العلاقات من خلال الشخصيات التي ترد ذكرها سواء من خلال قلقاميش بطل الأسطورة أو أنكيدو أو عشتار أو همبابا. وبشكل جلي تسرد الملحمة كيفية إنتقال القداسة والسلطة من المرأة إلى الرجل. فالعصر السومري هو عصر إحتكار الرجل للسلطة والثروة تماماً.

العصر السومري شهد مجمعات بشرية على شكل زيغورات التي كانت تتألف من ثلاث طبقات وتمثل الطبقية المجتمعية أيضاً، الطبقة العليا يقطنها الرهبان الذين سيتحولون إلى آلهة فيما بعد (الإيديولوجيا)، والطبقة الثانية يقطنها الحكام (سلطة الدولة) الذين يمثلون حلقة الوصل بين الرهبان والطبقة الدنيا التي تتألف من عامة الشعب الذين يعملون في الإنتاج والزراعة. أما الطبقة الوسطى فتتحول إلى السلطة التنفيذية أو الحكومات عندما تتشكل الدولة، وفي هكذا مجتمع أي مجتمع الزيغورات لا نجد أي أثر أو دور للمرأة، أي أن الرجل استطاع فرض إحتكاره للسلطة والثروة تماماً والمرأة في هكذا مجتمع ليست سوى جزء من الأمتعة أو سلعة ووسيلة لإستمرار النسل.

الذهنية الذكورية التي عززت موقعها في العصر السومري من خلال الزيغورات لم تكتفي بما هي عليه بل أرادت توسيع إحتكاراتها للسلطة والثروة فتأسست دولة المدينة تحت سلطة الرجل ثم الأسرة الحاكمة ودخلت في حروب وصراعات دائمة مع الجوار في سبيل الثروة والنفوذ إلى أن وصلت إلى دول واسعة مترامية الأطراف أو إمبراطوريات تحكمها أسرة حاكمة أو إمبراطور أو ملوك يتصارعون فيما بينهم. واستمرت هذه الحقبة وليس للمرأة أو الطبقات الدنيا سوى الكدح والجهد لتأمين لقمة العيش من الفلاحة أو الزراعة وصولاً إلى عصر الصناعة.

مع تطور الرأسمالية والعصر الصناعي بدأ الإنسان بتطوير الآلات والصناعة التي فتحت المجال أمام إستغلال البيئة التي باتت ضحية جديدة لأطماع الذهنية الذكورية من أجل مضاعفة إحتكاراتها للثروة، وكذلك الذهنية الذكورية عملت على تطوير وسائل القتال والحرب بهدف تحقيق الإنتصار على غريمه أو منازعه على السلطة والثروة، مما أدى إلى سباق التسلح على الصعيد العالمي.

بإختصار الذهنية الذكورية التي اعتمدت العنف وسيلة لتحقيق إحتكار السلطة والثروة أو توسيعها هي السبب في الحروب والنزعات التي شهدتها البشرية على مدى تاريخها، وهي السبب في إستغلال الطبيعة والبيئة وتخريبها في سبيل مضاعفة ثروتها، وهي التي طورت أسلحة الفتك والدمار بما فيها أسلحة الدمار الشامل ولا زالت تتاجر بها وتهدد بها البشرية كلها ناهيك عن تخريب وتعطيل العلاقة المجتمعية التي تأسست على المحبة والإحترام المتبادل. وإستعبدت المرأة بأشكل مختلفة وفي أحسن الأحوال جعلتها أداة للزينة أو سلعة تباع وتشترى.

ولهذا عندما نتحدث عن الذهنية الذكورية فنحن نقصد كل هذه التوجهات والآثار السلبية لهذه الذهنية التي تعاني منها المجتمعات البشرية منذ العصر السومري وصولاً إلى يومنا الراهن.