لكل السوريين

لغات الشعوب

اللغة بالنسبة لأي شعب بوتقة لثقافته وتاريخه، نشأت نتيجة تكونه كمجتمع وتفاهم أفراده ربما بالإشارة والأصوات أولاً ثم تطورت تلك الأصوات إلى كلمات ثم مصطلحات خاصة بذلك المجتمع وانتشرت حسب قوة وإمكانيات ذلك الشعب أو تلك الأمة أو ذلك المكون. أو تقلصت وزالت إذا كانت تلك الأمة ضعيفة واهنة غير منتجة وغير مشاركة في الحضارة البشرية التي تواصلت عبر التاريخ مع تغيير أماكنها الجغرافية وروافدها لتصب في المجرى الأساسي التاريخي وصولاً إلى يومنا هذا.

اللغة كالشجرة تبدأ بذرة ثم نبتة وشجرة تحتاج إلى الرعاية والعناية لتثمر وتساهم في وحدة وتلاحم المجتمع والشعب والأمة بالآداب والثقافة والعلم والمعرفة، وتتعزز أواصر الأخوة والثقافة ويتقدم العلم وتنمو المعرفة بالترجمة وتبادل الثقافات بين الشعوب والأمم المتجاورة. ولولا اللغة والثقافة وتبادل المعرفة لما وصلت الحضارة البشرية إلى يومنا هذا. وأكبر ثورة في التاريخ البشري كانت بتحويل اللغات الشفوية إلى رموز مكتوبة في بدايات الحضارة السومرية، ولو لم يتم كشف الكتابة المسمارية في حوض الرافدين أو الهيروغلوفية في حوض النيل لما استطعنا التعرف على التاريخ السومري أو الفرعوني، فتدوين اللغة وترجمتها من لغة إلى أخرى كان سبباً في نقل كل المعارف من جيل إلى جيل وصولاً إلى يومنا الراهن. فالمولود الحديث يتعلم لغة أبيه وأمه قبل أن ينخرط في مجتمعه.

من ناحية أخرى تعتبر لغة شعب أو أمة ما ذاكرتها التي تربطها بجذورها، فالأسماء والمصطلحات التي وضعها الآباء والأجداد وانتقلت عبر الأجيال تعبر عن مشاعرهم وتطلعاتهم ونمط حيواتهم أيضاً، فقد قاموا بتخليد تلك الأسماء والمصطلحات في أشعارهم وقصصهم ومآثرهم، وعندما نذكرها ونفكر في معانيها يعود بنا خيالنا إلى تصور نمط حياتهم ومعيشتهم وتطلعاتهم، ومدى أصالتنا تقاس بمدى ارتباطنا بالتراث الذي تركوه لنا لنعيش بها ونحرص عليها ونحقق التوافق بين تلك الأصالة التي ورثناها مع معطيات يومنا.

مع ظهور وسيادة الدولة القومية أو الدولة الوطنية عملت الفئة الحاكمة على تأسيس دولة متجانسة مع قومية الفئة الحاكمة أو لنقل القومية الحاكمة لتبقى قوميته أو فئته أو زمرته حاكمة أو متحكمة ومحتكرة للسلطة والثروة في الدولة أو البلاد التي يحكمونها، ولهذا عملت كل ما يمكنها للقضاء على الشعوب والأمم المختلفة غير المتوافقة مع تطلعات ومصالح احتكارات السلطة والثروة، ووجدت في المختلف خطراً على وجودها ومنافعها، ولهذا لجأت إلى الصهر والتذويب ضمن بوتقته القوموية أو الإيديولوجية الحاكمة، وهكذا حدثت الغزوات الدينية المقدسة على الشعوب، وتطورت سياسات الصهر والتذويب بالوسائل غير العنيفة وعندما لم تفلح لجأت القوى المهيمنة إلى سياسات الإبادة وإنكار الوجود وتم القضاء على العديد من الأمم والشعوب إلى درجة الزوال من التاريخ في كافة أرجاء العالم.

بينما العلم والحقيقة تدل على أن إمتزاج الثقافات والتنوع الثقافي والتراثي يؤدي إلى الغنى وخلق نماذج جديدة تدفع نحو تطور الحضارة البشرية ونمائها، والحدائق تكون أجمل بتنوع الألوان والأشكال التي تتضمنها الحديقة. والجانب الأخطر في كل ذلك هو أن تتمكن القوى المهيمنة لدى شعب ما من إقناع شعبها بتلك المبادئ والفلسفة التي يتبناها، عندها تحدث الكارثة وكمثال يمكننا العودة إلى تاريخ وأسباب أكبر الحروب الطاحنة في التاريخ البشري.

الأمة الكردية موجودة على جغرافية آبائها وأجدادها منذ ما قبل التاريخ المكتوب كما تدل الدراسات الأنتروبولوجية والسوسيولوجية، والأركيولوجية، عاشت وعايشت جميع الحضارات البشرية التي سادت وبادت في ميزوبوتاميا والشرق الأوسط عموماً، وساهمت بل وشاركت فيها جميعاً كما يذكر في التاريخ، وفي السياسات كانت غالبة أو مغلوبة حسب إمكانياتها وتطورها، أي كانت متفاعلة مع التطور الحضاري من جميع الجوانب الثقافية والعلمية والفكرية، وعيبها الوحيد أن مصالح الأمة الكردية لم تتواكب مع الإمبراطوريات التي هيمنت على العالم في القرنين الماضيين، وعندما وجدت تلك القوى مصلحتها في إنشاء الدول القومية في منطقة الشرق الأوسط والعالم لم تسمح للأمة الكردية بتأسيس كيان قومي خاص بها على جغرافية أسلافها فبقيت بدون دولة قومية.

أما الأكثر إيلاماً هو أن قوى الهيمنة العالمية قسمت جغرافية كردستان بين أربع دول قومية وتركت لها العنان لتفعل ما تشاء بالأمة الكردية، حيث تمت ممارسة الصهر والتذويب والتهجير وعندما لم تفلح تلك السياسات مارست القمع والإبادة دون رادع ولا وازع. وهكذا نمت المشاعر القومية والوطنية لدى الكرد وبشكل متطرف كرد فعل يتناسب مع الفعل الممارس عليهم.

والآن يظهر بعض الذين يتصدقون على الشعب الكردي بمنحهم ساعتين إختياريتين لتعلم لغتهم الأم !!! أين هؤلاء من الثقافة والحضارة البشرية ؟