لكل السوريين

عن الغنى والسعادة

بالتأكيد أنَّ الرفاهية لا تسير مع السعادة دائماً، وإن كثيراً من الناس بؤساء وإن كانوا يملكون في الظاهر كل ما من شأنه أن يجعلهم سعداء.

يمكن أن تقدم الطبيعة إلى أحبّ عشاقها الغنى والقوة والشهرة والحياة الطويلة، ولكنها لا تستطيع أن تجعله سعيداً، إذ يجب أن يعتمد في ذلك على نفسه.

إذا لم تكن عناصر السعادة موجودة في نفس الرجل فإن كل ما في العالم من جمال ومشاهد وملذّات ومبهجات لن تستطيع أن تهبها له.

أكثر ما تتوقف عليه السعادة إنما هو ضبط الرجل لأفكاره وقيادته لها متجنباً ما هو مؤلم، مستعيداً أجمل الذكريات. فالعالم يراه أحدهم قاحلاً مظلماً حقيراً، ويراه الآخر غنياً مبهجاً مملوءاً بالمعاني.

إنَّ السعادة شيء يحتاج إلى المران، كالعزف بالناي، وإذا سرنا على الصراط المستقيم وصلنا إلى ما تصبو إليه نفوسنا ولكن حذار أن نبحث عن هذا الصراط باهتمام شديد.

لا تفكر كثيراً في نفسك، إنك لست الوحيد في هذا العالم، ولا تفتش عن اللهو، ولكن مستعداً دائماً أن تلهو، وإن ضياع يوم في حياتنا هو اليوم الذي لا نضحك فيه، وإذا كان اليوم مظلماً فأضئه.

يتذمر بعض الناس دائماً، ولكنهم مساكين لم يدركوا أنه لو قدر لهم فولدوا في أسعد الأيام والبلاد لوجدوا هنالك أشياء كثيرة يتشكون منها ويتذمّرون.

الغبطة مقو أخلاقي عظيم، وكما أنّ الشمس تفتّح الأزهار وتنضج الأثمار، كذلك الغبطة.

الشعور بالحرية والحياة يبعث فينا بذور الوجود.. ومادام الإنسان محافظاً على بشاشته فهو محافظ على قوته وشبابه.

يظن بعض الناس أنّ السرور دليل عدم التفكير وهذا خطأ كبير، إذ ليس من علاقة ضرورية بينهما.

لا نستطيع أن نمنع آلام هذه الحياة عنا، ولكننا ـ إذا أردنا ـ نستطيع أن نسمو فوقها، ولذلك يجب أن نعلق على جدران غرفة ذكرياتنا صوراً جميلة ضاحكة. وكما يلام الزمن الجراح يشفي الزمن الأحزان.

إنَّ العقل المثقف، ولا أعني بالمثقف عقل الفيلسوف، بل كل عقل فتحت له منابع المعرفة كيف يمرن قواه، سيجد في كل ما يحيط به منابع للسرور والتسلية لا ينضب معينها، سيجد في بدائع الفن غبطة، وفي جمال المرأة راحة، وفي خيال الشعراء وحوادث التاريخ سلوة، وفي عقائد الناس” نزهة روحية”.

الطبيعة نعمة لمن لا يكفر بالنعمة. لا الغنى ولا الجاه بضامنين لك السعادة.

قد تكون غنياً وعظيماً وقوياً من غير الحب والإحسان والاطمئنان، ولكنك لن تكون سعيداً. لقد اتفق أحكم الحكماء على أن السعادة لا يمكن أن تشترى بالمال ولا أن تنال بالقوة.

لقد أغرت مفاخر الإمارة وعظمة الملوك ورفاهيتهم السّواد الأعظم من الناس، أنا لا أعجب من ذلك، فإنني أؤكد أنّ الملوك يملكون أقل نصيب من “المسرات العظيمة”، وأعظم سهم من “البلايا العظيمة”.

لا ينبغي أن تخاف الموت، فالموت كما يقول “باسكال”، الفيزيائي، وعالم الرياضيات، والفيلسوف الفرنسي: “هو المصيبة الوحيدة التي لا نشعر بها.. وما دمنا كائنين فما ثمّة موت. وإذا جاء الأجل فما ثمّة وجود”.

تظل السعادة كنز ثمين موجود في مكان ما، ولكن الوصول إليه لا يحتاج إلى خريطة بل يكفي أن تتبع قلبك وسيهديك إلى ذلك المكان، وقد تكون السعادة شيئاً نسبياً، والإنسان قادر على إسعاد كل من يتعامل معهم، فضلاً عن أنها شعور داخلي يتمثّل في سكينة النفس، وانشراح الصدر، وراحة الضمير.

وقد يكون العمل التطوّعي، بالنسبة لي، يُعدُّ بمثابة السعادة الحقيقية التي يُمكن أَن أُقدمها للناس، بصورةٍ عامة، ناهيك عن أمورٍ وأحوال أخرى، يُمكن أن نُعدّها ـ في المقابل ـ مؤشراً مؤثّراً من مؤشرات السعادة، ومنها:

قراءة كتاب أدبي، الاهتمام بالعلوم، حضور البرامج الثقافية، المشاركة في الندوات، الإصغاء إلى حديث كاتب كبير، مشاهدة الدوري الانكليزي الممتاز(بريميرليغ) لكرة القدم، بالإضافة إلى الدوريات الخمسة الكبرى في العالم، الجلوس أمام الكمبيوتر وقراءة الصحف والمواقع الالكترونية وغيرها من الأنشطة الثقافية الأخرى، فهذا كنز كبير لا يمكن بحال أن أقارنه بشيء آخر.

وقد تكون سعادتنا متوافرة في سماع أغنية مؤثّرة لفنان مغمور لم تسعفه الشهرة على البروز، أو تكمن في الجلوس إلى ركن في مقهى متواضع، أو الإصغاء لحديث طفل صغير، أو الحضور إلى جانب صديق متفهّم ويعرف معنى الحياة ويصورها على أنها مجرد تجاذب أفكار ولقاء عابر سبيل، وغيرها من جوانب حياتية مهمّة صارت في منأى عن الوضوح، وكلّها تكاد تشكل جانباً من ألوان السعادة الغائبة.

إنّ هذه القراءات، بمجملها، تُوفر لنا الاسترخاء والمتعة والارتياح، لأن آثارها تبقى قائمة، وزوالها يعني موتنا سريرياً. ومع تدفّق المواقع الالكترونية، وتزايد أعدادها وغناها بالمعلومة والبحث عن أشياء شخصية مهمّة، تظل السعادة منقوصة بعيداً عن الوطن، لأنه مصدر السعادة الحقيقية، وهذا ما لمسناه من خلال سنوات الاغتراب، ولمسه كثير غيري.

يجب ألّا ننشد السعادة في الخارج بل في نفوسنا، وفي عقولنا.

خذ الغبطة في بيتك، واسمح لها أن تنمو ودارها، فإنها ستخفّف من آلامك وأحمالك، وتغني لك وأنت تجاهد في حراثة أرضك، وفي مكان عملك.

 

عبد الكريم البليخ