لكل السوريين

إطلالة صغيرة على تعدد الهويات والثقافات في سوريا

سورية بلد عريق تتعدد فيه الثقافات والهويات والقوميات والديانات منذ قديم الزمان، والتي منحته طابعا جميلا تزركشت بألوان فسيفسائية خلابة، لكن ما يؤسف له هو ما تعرضت له تلك التنوعات والاختلاف في بنية المجتمع السوري، من تدخلات خارجية استعمارية تخريبية, وأخيرا الحروب التدميرية التي تعرضنا لها منذ عام 2011 وحتى الان, والمحاولات العدوانية للتفريط بتلك اللوحة الجميلة النادرة، ومنها المتوافقة مع إدارات عنصرية وتعسفية من قبل المعارضات المتعصبين والمتشددين على بعض المناطق, والذي ولدّ ألوانا من السلوكيات والممارسات الحاقدة والضيقة التي حاولت تنفيذ اجندات لا علاقة لها بالمواطنة ولا بالسلمية ولا بالديمقراطية، وخلق آثارا ضارة على كيان التراث وهيبتهه، وعلى قيام الفرد بواجباته داخل المجتمع، وزاد بالأمر سوءا الحرب ضد الدولة ومؤسساتها.

إن مسألة تعدد الهويات والثقافات في سورية, بقدر ما تمثل بوابة حضارية لتعدد الآراء والمواقف واحترام المختلف، بقدر ما حاولت أن تكون عوامل تفجيرية من قبل إرادات شيطانية لم ترد بالوطن خيراً, أشاعت سلوكيات سياسية استبدادية مدمرة استقوت بدول مجاورة, دون أي اعتراف لا بقانون ولا دستور ولا فكر سياسي حضاري، ما أدى إلى زعزعة الثقة بوجود هوية وطنية صادقة تحرك الفرد السوري في كل سوريا، وأظهرت بعض التحركات انتماءات إلى هويات طائفية أو قومية أو عنصرية والاستقواء بها على الغير.

نشير هنا إلى الكتاب الرائع “الهويات القاتلة، قراءات في الانتماء والعولمة” للكاتب اللبناني أمين معلوف، الذي قام بتفكيك ظاهرة الهوية المعقدة جدا، وبين الأسباب التي تجعل من هوية اجتماعية أو ثقافية أو دينية عادية هوية قاتلة ومبيدة للآخرين.

وأن الهوية انتماء يمكن أن يكون عامل إضافة وتثاقف وتبادل، كما يمكنه أن يتحول إلى عامل احتراب وانزواء حضاري، إن حدث إفراط أو تطرف في الانتماء، وقال السيد معلوف محذرا أن: ”الهوية صديق مزيّف”، وأوضح الآليات المخفية التي تحوّل الانتماء الوطني إلى طغيان التعصب للانتماء إلى مجموعات مختلفة الهوية متكئة على التاريخ.

فالهوية مركبة ومعقدة من جهة، ومتراكمة بمعنى السيرورة والتواصل من جهة ثانية، وليست ذات بعد أحادي أو ثابتة وفق محددات معينة. والإنسان مركّب من هويات متعددة، باعتباره ذات متعددة الجوانب والأبعاد، فالهوية هي عملية تراكمية في مستوى الأزمنة والأمكنة والتفاعل الحضاري.

وطرح السيد أمين معلوف البديل الحضاري للهويات الأحادية المتفارقة والمتصارعة، حيث أكد أن الهوية المتصالحة مع ثقافتها وذاتها وتاريخها ولغتها من جهة، ومع بيئة العولمة والسماوات المفتوحة و ”قرية القارات الخمس”، قد تكون هي الترياق لفهم حقيقي للذات من حيث إنّ الهوية سيرورة وتراكمية مركبة ومعقدة، وفهم أحق لشروط التعايش المشترك والذي لن يتحقق إلا بمبادئ الاحترام والحوار.

واستنادا إلى ما سبق, فإن تعدد الهويات وتنوعها للفرد أو للجماعة ليس أمراً سلبياً ولا يجب معاداته أو رفضه ومحاربته، بل يجب احترامه وتقديره، لأنه حق طبيعي جداً لكل انسان وجماعة، فالإنسان كائن متعدد الهويات منذ ولادته وحتى مماته، ولكن الأمر المكروه والمنبوذ هو تحول هذه الهويات الفرعية للفرد والجماعة إلى هويات قاتلة ومدمرة لكينونة الناس وحياتهم، وتتحول إلى لعنة على كل واحد منا، في ظل غياب الهوية الوطنية.

في واقع الأمر أن لكل هوية من الهويات المتعددة والسائدة في المجتمع السوري، نمط معيشي وسلوكي ونظام مستقل من العادات والتقاليد والتراث والقيم والتربية متخالفة، وتنعكس على شخصية الفرد والجماعة، وهي جزء من حالة المواطنة المندمجة والمنتمية إلى جغرافية واحدة.

ونرى أن الحروب التي حدثت على سوريا وفيها، خلقت بعض التهديدات على الهوية الوطنية، وتركت بعض الاثار السلبية على وحدة الشعب وتماسكه الاجتماعي والحياتي. وخصوصا أنها استندت على خطاب عنفي, ما بعد اذار 2011.

فقد أشاعت بعض  الخطابات السياسية, روح العنف والكراهية بعيدا عن روح المواطنة وقيمها, ضاربة بعرض الحائط مصالح الوطن السوري وأمواله وثرواته, وتم تغييب وغياب الخطاب الثقافي الوطني الذي ينمي فكرة التعددية والتسامح ويشجع الهويات والمكونات على احترام بعضها البعض.

تقرير/ ا ــ ن