لكل السوريين

نفحات ثقافية من الماضي (أنحس حذاء في التاريخ! حذاء أبي قاسم الطنبوري)

لطالما كانت الأحذية مداسات (حذاء الداسومة وكان يصنع كاملأً من الجلد) مريحة لأقدامنا، بتصميمها الجميل، وتحملها لعقبات الطرق المختلفة، لكن هل فكرت يوما في حذاء يدفع بصاحبه إلى مرحلة أقرب إلى الجنون؟! هذا ما سنكتشفه في قصة حذاء “الطنبوري”، الذي أخذ من الشهرة ما لم تأخذه أغلى ماركات الأحذية العالمية المعاصرة.

يحكى أنه كان ببغداد رجل يدعى بـ “أبي القاسم الطنبوري”، صاحب حكايا ونوادر، وله حذاء لم يبرح قدميه أبد السنين والأعوام، لدرجة أنه كلما انقطع منه موضع جعل عليه رقعة فصار ثقيلا جدا، حتى أصبح مضرب الأمثال عند عامة الناس وخاصتهم فيقال: أثقل من مداس (حذاء) “أبي القاسم الطنبوري”.

دخل مرة سوق الزجاج فاستوقفه سمسار وقال له: يا أبا القاسم، قد وصل تاجر من “حلب”، ومعه قوارير من زجاج مذهّب قد كسد، فابتعها منه، وأنا علي بيعها بمكسب مضاعف فتربح الخير الوفير وآخذ أجرة سمسرتي، فابتاعها بستين دينارا. ثم دخل سوق العطارين، فقصده سمسار آخر وقال له: يا أبا القاسم، لقد ورد علينا تاجر يبيع ماء ورد في غاية الحسن والرخص، فابتعه منه وأنا أبيعه لك بربح كبير، فابتاعه منه بستين دينارا أخرى، ثم جعل ماء الورد في القوارير الزجاجية المذهبة، ووضعها على أحد رفوف المنزل حتى يتفق مع السماسرة لاحقا.

ثم دخل الحمام ليغتسل، فقال له بعض أصدقائه: يا أبا القاسم، أتمنى أن تغير حذاءك فإنه في غاية السوء والوحاشة، وأنت ذو مال!، فقال: السمع والطاعة. ولما خرج من الحمام ولبس ثيابه، وجد إلى جانب حذائه حذاء جديدا، فلبسه ومضى إلى بيته. وتزامن ذلك مع وجود القاضي بالحمام كذلك، فلما خرج لم يجد حذاءه، فقال: هذا الذي لبس حذائي، ألم يترك عوضه شيئا؟. فوجدوا حذاء “أبي القاسم” لأنه معروف، فالتحقوا ببيته فوجدوا حذاء القاضي عنده، فعوقب بالضرب والسجن مع تغريمه.

وبدأت حوادث الحذاء المنحوس! لما خرج “أبو القاسم” من السجن أخذ حذاءه وألقاه في نهر “دجلة” فغاص في الماء. وحدث يومها أن بعض الصيادين رمى بشبكته فطلع فيها الحذاء فقال: هذا حذاء “أبي القاسم”، والظاهر أنه سقط منه. فحمله إلى بيت “أبي القاسم” فلم يجده، فرماه من نافذة بيته المفتوحة، فسقط على الرف الذي عليه القوارير، فانسكب ماء الورد وانكسرت القوارير.

فلما رأى “أبو القاسم” ذلك لطم على وجهه وصاح: وافقراه أفقرني هذا الحذاء!. ثم قام يحفر له في الليل حفرة، فسمع الجيران حس الحفر فظنوا أنه ينقب على حائطهم، فشكوه إلى الوالي فأرسل إليه من اعتقله، وقال له: ‘تنقب على الناس حائطهم! اسجنوه‘، ففعلوا فلم يخرج من السجن إلى أن دفع غرامة مالية كبيرة، فأخذ حذاءه المنحوس ورماه بجانب مرحاض عمومي للمسافرين، فسد فجوة به نتج عنها تسرب للمياه وضياعها وانبعاث روائح كريهة منها. فلما وقف الصناع على موضع الفجوة وجدوا حذاء “أبي القاسم” فحملوه إلى الوالي وحكوا له ما وقع، فحكم عليه بدفع غرامة مالية، فقال وهو في قمة اليأس: ما بقيت أفارق هذا المداس.

فغسل حذاءه وجعله على السطح حتى يجف، فرآه كلب ظنه عظمة كبيرة، فحمله وعبر به إلى سطح آخر فسقط على امرأة حامل فارتجفت وأسقطت ولدا ذكرا. فنظروا ما السبب فإذا حذاء “أبي القاسم”.

فتم رفع أمره إلى القاضي فقال: يجب عليه غرمه، فابتاع لهم غلاما وخرج وقد افتقر ولم يبق معه شيء. فأخذ الحذاء وجاء به إلى القاضي، وحكى له جميع ما وقع له من مصائب مع حذائه المنحوس، وقال: أترجاك مولانا القاضي أن تكتب بيني وبين هذا الحذاء مبارأة بأنه ليس مني ولست منه، وأنا بريء منه، ومهما فعله يؤاخذ به ويلزمه فقد أفقرني. فضحك القاضي، وتعجب من قصته، وأمر له بمال، وانتشرت قصة حذاء “الطنبوري” بين الناس، فأكسبه على نحسه شهرة كبيرة.

مقتبس من روائع الأدب العربي “بتصرف”