لكل السوريين

تحت أنظار العالم.. تركيا تشن حرب مياه على السوريين والعراقيين

تقرير/ محمد الصالح 

منذ البداية استأثرت تركيا بمياه نهري دجلة والفرات، ورفضت أي شراكة، أو اقتسام عادل للمياه بين دول منبع ومجرى ومصب النهرين.

ولكن المشكلة تفاقمت، والأضرار الناجمة عن نقص المياه تضاعفت، عندما احتلت قوات النظام التركي الأراضي السورية في الشمال، وبدأت باستخدام المياه لإحداث أكبر ضرر في المنطقة، حيث تسبب ضعف تدفق مياه نهر الفرات بانخفاض كبير في منسوب بحيرة الطبقة، وهو ما أدى إلى توقفت معظم المولدات المائية، وانخفاض تغذية الكهرباء للمدن السورية، وانقطاعها أحياناً، مما اضطر الكثيرين من مربي المواشي على ضفاف النهر إلى بيع مواشيهم بأسعار زهيدة لعجزهم عن توفير الأعلاف اللازمة لها.

كما فقد الكثيرون من المزارعين السوريين محاصيلهم لشح مياه الري، وانقطاعها تماماً في بعض الأحيان. ونفقت معظم الأسماك التي كانت تشكل مصدر دخل رئيسي لعدد كبير من سكان المنطقة.

وقد مارست السلطات التركية، وما تزال تمارس، هذه الجرائم تحت ذريعة أن لها حق السيادة المطلقة على مياه نهري دجلة والفرات داخل أراضيها، وأن من حقها التصرف بكمية المياه التي “تمنحها” للدول التي يمر النهران بها، حاضراً ومستقبلاً.

وتحت هذه الذرائع تصرفت السلطات التركية، وما تزال تتصرف، بمياه النهرين كما يحلو لها، وتقيم السدود الكبيرة والصغيرة، دون أي مراعاة لحقوق دول المجرى والمصب.

واستخدمت المياه، وما تزال تستخدمها، كورقة ضغط، وسلاح تشهره بوجه من يحاول إعاقة مساعيها لتحقيق أطماعها التوسعية في المنطقة، وتعزيز نفوذها فيها تمهيداً لتتريكها، وضمها لأملاك ورثة الامبراطورية العثمانية البائدة.

جرائم تحت أنظار العالم

منذ بداية العام الحالي قام النظام التركي بتخفيض حصة سوريا من مياه الفرات إلى مستويات غير مسبوقة، وأظهرت تسجيلات مصورة نشرها ناشطون من أبناء مناطق شرق سوريا، تحول أجزاء كبيرة من مجرى النهر إلى أراض قاحلة.

وهو ما زاد تخوف المزارعين في سوريا من أن يؤدي نقص المياه إلى زعزعة استقرار مناطقهم، حيث لا تقتصر الأضرار على سقاية المزروعات فقط، بل تؤثر على معدلات وصول الطاقة الكهربائية إلى منازلهم.

خاصة أن قوات النظام التركي، والجماعات الموالية لها مستمرة في جرائمها بقطع مياه الشرب عن مدينة الحسكة وريفها الغربي، مما يحرم أكثر من مليون شخص من مصدر مياههم الوحيد.

ومنذ نهاية شهر تشرين الأول عام 2019 أوقفت القوات التركية ضخ المياه من محطة علوك أكثر من 18 مرة، وواصلت الاعتداء على محطات وشبكات نقل الكهرباء في المنطقة للتضييق على سكانها وتهجيرهم من مناطقهم عبر حرمانهم من مقومات الحياة فيها.

وهو ما ضاعف معاناة السوريين في المنطقة، في ظل عدم وجود أي مصدر مائي بديل.

ومع تزايد معاناة السكان من شح المياه، يتسابق العديد منهم على الصهاريج، للحصول على جزء من حاجتهم من مياه الشرب، ويعتمدون على مياه الآبار السطحية المالحة التي حفروها في عدد من أحياء المدينة، لتأمين استخداماتهم المنزلية.

ويناشد سكان المنطقة المجتمع الدولي بالتدخل والضغط على النظام التركي لوقف جرائمه المرتكبة بحقهم، في ظل انتشار فيروس كورونا، وارتفاع درجات الحرارة، مما يجعل من الحاجة للمياه مضاعفة.

اليونيسيف تستنكر

نددت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” بقطع النظام التركي والتنظيمات الإرهابية التابعة له مياه الشرب عن مدينة الحسكة والتجمعات السكانية التابعة لها.

واعتبرت المنظمة أن هذا الأمر يعرض حياة أكثر من مليون شخص للخطر، لا سيما في الوقت الذي يبذل فيه العالم جهوداً للتصدي لفيروس كورونا قبل أن ينتشر.

ونقلت الأنباء عن ممثل اليونيسيف في سوريا، فران إيكيثا، قوله “إن محطة علوك للمياه تعرضت مجدداً للتعطيل، ما يجعله الحدث الأخير في سلسلة استهداف مراكز تزويد المياه للبلدات والمخيمات المجاورة”.

وأكد إيكيثا أن “قطع المياه من خلال تعطيل عمل المحطة في ظل الجهود الحالية للتصدي لفيروس كورونا يضع الأطفال وأسرهم في خطر غير مقبول”.

وأوضح ممثل اليونيسيف أن المحطة تمثل مصدر المياه الرئيسي لمدينة الحسكة والتجمعات السكانية التابعة لها، لافتاً إلى أن “الحصول على مصدر مياه مأمونة وموثوق به، وغير منقطع، مهم لضمان عدم لجوء الأطفال والعائلات إلى مصادر مياه غير مأمونة”.

أطماع قديمة ومتجددة

لتنفيذ أطماعها في مياه دجلة والفرات، وأهدافها في كل من سوريا والعراق، استبدلت أنقرة مصطلح “الأنهار الدولية” المعترف به دولياً، بمصطلح مراوغ وهو “المياه العابرة للحدود”، بهدف سلب حق الدولتين في تقاسم السيادة عليهما معها.

بيمنا جاء مصطلح “الأنهار الدولية” في الاتفاقيتين الدوليتين لعامي 1966 و1997 بشأن استخدام المجاري المائية الدولية لأغراض غير ملاحية.

وخلال الاتفاقيات الثنائية التي وقعتها مع بغداد ودمشق عامي 1982و 1987، أصرّت تركيا على استخدام هذا المصطلح، واستمرت بالمراوغة لتتمكن من استكمال مشاريعها المائية الضخمة على النهرين دون التشاور معهما، إلى أن تمكنت من إقامة مئات السدود على حوضي النهرين، على نحو لخصه الرئيس التركي الأسبق توركت أوزال، الملقب بمهندس السدود، بقولته الشهيرة إبان تدشين سد أتاتورك عام 1992 “إن المياه التي تنبع من تركيا هي ملك لها وحدها، كما أن النفط الكامن بالدول العربية ملك لهم وحدهم، وطالما أننا لم نطلب مشاركة العرب نفطهم، لا يحق لهم المطالبة بمشاركتنا مياهنا”.

وفي سياق مساعيها لاستخدام المياه كورقة ضغط على بغداد ودمشق، باشرت أنقرة سياسة التعطيش الجائر لهما، بغية إجبارهما على القبول بالاحتلال التركي لأراضيهما والرضوخ للإجراءات الممنهجة لتغيير التركيبة الديمغرافية والمعالم الحضارية لتلك الأراضي المحتلة تمهيدا لتتريكها.

خرق الاتفاقيات

أبرمت تركيا وسوريا اتفاقية عام 1987، تنص على تعهد الجانب التركي بأن يوفر معدلاً سنوياً يزيد عن 500 متر مكعب في الثانية للجانب السوري.

ومنذ بداية هذا العام، بدأ النظام التركي بتخفيض حصة سوريا من مياه الفرات إلى مستويات متدنية بشكل كبير، لتبلغ ما يقارب 200 متر مكعب من المياه في الثانية، وهو ما يعتبر خرقاً فاضحاً للاتفاقية واقترب انخفاض منسوب البحيرات من الحد الذي لا يمكن عنده تشغيل سد تشرين والحصول على الطاقة الكهربائية اللازمة ولو بحدودها الدنيا.

مما تسبب بتخفيض ساعات تشغيل الكهرباء إلى أكثر من النصف، كما انخفض منسوب الماء إلى درجة كادت أن تهدد بتوقف سد الفرات عن الخدمة.

كما تسبب بانقطاع التيار الكهربائي عن محافظة الحسكة بشكل شبه تام، بسبب توقف العمل في عنفات توليد الطاقة الكهربائية في سدي تشرين بريف حلب والفرات بريف الرقة.

حيث اقتصر عمل عنفات توليد الكهرباء على عنفة واحدة، من أجل تغذية مطاحن الحبوب ومحطات ضخ مياه الشرب فقط.

سياسة الأمر الواقعٍ

منذ البداية عمدت أنقرة إلى استخدام سلاح المياه عبر فرض أمر واقعٍ يتجلى بإنكار الطابع الدولي لنهري دجلة والفرات، واعتبارهما نهرين تركيين يحق لتركيا وحدها التصرف بمياههما دون مراعاة لحقوق سوريا والعراق، أو احترام لقواعد القانون الدولي للمياه، التي تكفل الاستخدام العادل للمصادر المائية، عبر التنسيق مع دول المجرى والمصب لاقتسام المياه.

وهذا ما أكده سليمان ديميريل عندما كان رئيس وزراء تركيا حيث قال “لكل دولة حقها الطبيعي في استغلال مواردها المائية كما تشاء، وليس لأية دولة أخرى الحق في الاعتراض على ذلك”.

وأكد أنه “ليس لسوريا أو العراق أي حق في المياه التي تنبع من تركيا، وأن حكومته غير مستعدة لتقديم أية ضمانات مستقبلية فيما يتعلق بكميات المياه التي ستتركها لسوريا والعراق من نهري دجلة والفرات”.

وإلى ذلك ذهب توركت أوزال رئيس الجمهورية التركية الأسبق عندما قال عام 1991، “إن لم يصدر العراق النفط عبر الأراضي التركية فإنه لن يكون هناك ماء للعراق”.

وأعاد حكمت تشتين، وزير الخارجية التركية الأسبق، تأكيد هذا الأمر عندما زار إسرائيل سنة 1992، حيث  قال “إن تركيا تمتلك ثروة مائية على جانب كبير من الأهمية وإن من حقها بيع هذه الثروة لمن تريد وحجبها عن الدول التي تعرض مصالح تركيا للخطر”، وأشار إلى حق تركيا “المتاجرة بالمياه مثلما يتاجر الآخرون بالنفط ويحتكرون عائداته”.

وحتى بداية السبعينات من القرن الماضي، اتبعت تركيا سياسة مائية مراوغة حول مشروعات ري عملاقة أخفتها عن جيرانها، مستغلة الخلافات السياسية التي كانت قائمة بين العراق وسوريا، للحصول على أكبر كمية من مياه الفرات.

زرع الشك واستثماره

كانت تركيا، في جميع مفاوضاتها السابقة، تحاول الحيلولة دون وجود موقف موحد لسوريا والعراق في مواجهتها عن طريق خلق جو من الريبة والشك بين البلدين حول المياه، واستغلال الجو السياسي المشحون بينهما، في الثمانينات والنصف الأول من التسعينيات من القرن الماضي.

وما يحدث الآن هو استمرار لهذه المحاولات بعد احتلالها لأجزاء من البلدين.

كما هو استمرار لاستثمار هذه السياسة لتعزيز القبضة التركية على المياه، وتحويلها إلى سلاح تهدد جيرانها به، والحصول على أكبر كمية من مياه نهر دحلة والفرات، وحرمان العراق وسوريا من الاستفادة منها، أو تقاسم السيادة عليها مع تركيا، وتحميل كل منهما المسؤولية عن ذلك.

وهذا ما ذهب إليه توركت أوزال خلال زيارته للعراق، حيث قال “إن النقص الملاحظ في المياه التي تصل العراق عبر سوريا مشكلة يجب على العراق تسويتها مع سوريا”.

وكانت تركيا تزعم أحياناً أن السوريين يرفضون التباحث مع العراقيين، وتدّعي أحياناً أخرى أن سوريا ستهيمن على حصص المياه العراقية إذا سمحت تركيا بضخّها إلى العراق.

وفي أغلب الأحيان لا توافق على عقد اتفاقيات ثنائية مع العراق وسوريا تتعلق بالحصص المائية أو تقسيم المياه، بحجة أن القانون الدولي لا يجبرها على ذلك.

يذكر أن منظمة حقوق الانسان في سوريا أصدرت تقريراً حقوقياً حول قيام الحكومة التركية بحربها على سورية والسوريين عبر تخفيض كميات مياه الفرات عنها، ونقصان مياه الشرب والطاقة الكهربائية.

وفند التقرير الذي وقعت عليه المنظمات والهيئات الحقوقية والمدنية السورية، كافة المزاعم والذرائع التركية التي تبرر هذه الحرب.

وأكد على أن ملف المياه يتعلّق بالأمن الغذائي والاقتصادي والحياتي لكل السوريين، وهو غير قابل للمساومات، ومن غير المسموح لأي دولة من الدول المتشاطئة بإنقاص حقوق سورية المائية أو المساس بها.

وناشد الأطراف الإقليمية والدولية بتحمل مسؤولياتها تجاه شعب سوريا ومستقبل المنطقة، وطالبها بالعمل الجدي من اجل التوصل لحل سياسي سلمي دائم للازمة السورية، وبالضغط من أجل الانسحاب الفوري وغير المشروط، للقوات التركية المحتلة والمسلحين المتعاونين معها، من عفرين وريف الحسكة وريف الرقة وادلب وريفها، وجميع الأراضي السورية التي قاموا باحتلالها.