لكل السوريين

أرمن الرقة.. دانتيلا المجتمع الرقي

آرسين كيومجيان

ساقتهم الأقدار عام ١٩١٥م إلى أرض الخير…لن اتحدث تاريخيا اترك الساحة لغيري. يتحدث أفضل مني بكثير. سأتناول الموضوع من الجانب الاجتماعي والتأثير المتبادل بين المجتمعين الرقي والأرمني. وما أشبه اليوم بأمس مضى.

ما يثير الاستغراب والدهشة رغم الفوارق الاجتماعية الهائلة بين مجتمع بسيط أقرب إلى البداوة بالرقة ومجتمع أرمني مختلف كل الاختلاف من حيث اللغة والدين واللباس والحقيقة لا يوجد أي قاسم مشترك يستند إليه أي باحث في هذا الموضوع.

سوى أمر واحد. هو صفاء السريرة ونقاء الفطرة وجمال الروح الرقية التي تغتسل صباح مساء بندى الفرات، حيث تعيد لأبناء الرقة الطهر الصافي إن شابته شائبة. ودماثة الخلق الأرمني الأصيل والوفاء الكبير.

لم يمر الأرمن في كل بقاع الأرض قاطبة بمثل ذاك الجمال الروحي الذي وجدوه في الرقة…

حتى في حلب أو بيروت تجدهم في مجتمعات شبه مغلقة، بينما في الرقة كانت تجربة إنسانية عز نظيرها في المعمورة.

لم تكن لهم أحياء معينة في الرقة يتواجدون ضمنها…وبيوت الرقيين كلها بيوتهم.. وما من بيت إلا واختلطت دماء الرقيين بالدم الأرمني فهنا ماما مريم. ونانا أزنيف (ناجية فيما بعد).

وهناك خالة هاكوي..اوتاكويه.. ولوسين وماري واراكسي…..حتى مدرستهم الوحيدة وهي من أوائل المدارس كان فيها العدد الأكبر من تلامذتها من أبناء الرقيين…وكانت تعتبر أكاديمية في التعليم ويشارك في التعليم إلى جانب طاقمها الأرمني معلمون رقيون.

واختلطوا بشكل رائع بالمجتمع الرقي، ولم يطلب منهم تغيير دينهم وهذا ما يدحض ادعاءات بعض المغرضين تاريخيا وضمائريا أن الرقة حاضنة التطرف الديني. حيث تجد دور عبادتهم وكنائسهم في أجمل شوارع الرقة وأرقاها.

حتى مقابرهم كانت في موقع هام في وسط المدينة (مكان سوق الهال) يجاورها السور وكأنها رسالة من أهل الرقة أنكم (منا وبينا).. وأنتم معنا ونحن معكم بالأفراح والاتراح..

برعوا بالأعمال الصناعية.. والزراعة ومهن أخرى كالتصوير والطب والصيدلة. وحياكة الصوف والمخرز والدانتيل والخياطة الأنيقة، وأريد أن أشير هنا إلى صورة جميلة تختزنها ذاكرتي المنهكة…أول (بوتيك) رقي كان في السبع دربات تديره امرأة اسمها قدريسة.. وتساعدها ابتتها ماري… (بيت ال اصطفان).

حيث منحت هذه العائلة بيتا مجانيا من آل العلاص المأخوذ…ولازالت احواض الزهور التي تملأ زواياه مطبوعة بذاكرتي…وكانت العروس الرقية تجد كل مايلزم زينتها وجهازها وعطورها…وكل ماتحتاج ليوم فرحتها.

ولا ننسى مساهمات الأجيال اللاحقة بكل مناحي الحياة بالرقة وفي كل المجالات…فمن منا لا يذكر داوود الخاجو بلباسه العربي الذي لا يمكن لأحد أن يميزه أو الصيدلانية مارگو او الاختين ماري ولوسين من أفضل المعلمات…إضافة لتاكوهي.

وأسوق معلومة نادرة وهي أن السيد وانيسدردريان، والد الدكتور العزيز روبن كان يحب أن يبدأ صباحه الباكر بسماع القارئ عبد الباسط عبدالصمد يرتل القرآن مستغرقا في صوفية نادرة. كما استغراق العزيز جورج سباط في مقاله الرائع عن رابعة العدوية والأم تيريزا.

من منا في طفولته لم يغن ييرك يرگو ييرك چوس…بالرغم من أننا لا نفهمها. من منا لم يتذوق أطيب خبز من يوسف الفران بشارع القوتلي أقدم أفران الرقة.. وينتظر بعضنا صحنا من جيرانه الأرمن في نهاية صيامهم كما كنا نشاركهم بالچيكة برمضان.

من منا لم يحزن شديد الحزن لفراق المعلمة الخلوقة خاتون…من منا لم يطرب ويصفق لأعضاء فرقة التراث هاراج واكوب وغارو الذين اجادوا الفن الرقي أكثر من الرقيين…من منا لم يزر ارسين قومجيان بمكتبته الأثيرة ويتابع منشوراته الرائعة…؟؟

والصفة المميزة لأرمن الرقة انهم يتكلمون العربية بشكل يصعب التصديق..أنهم ليسوا من أبناء جلدتها..ليس كأرمن حلب المكسرة مثلا.

كم كان يحلو لنا مجالسة العزيز واركيس الخياط الانيق وحديثه المغرق بالرگاوي…أو واركيس الساىق عندما تكون معصبا لتأخره عن الموعد المحدد فيقول لك مبتسما… صلي على النبي.. ياخوي.

وأمثلة كثيرة وكثيرة يصعب حصرها…

أي تآخ هذا كان برقتنا…ها هي الاخت لولو تخبرني عن اخوتها بالرضاعة من إحدى الأسر الرقية (الحجوان)… Loulou Derderian Tenekjianاعتقد بل أجزم أن ذلك لم يحصل إلا في كنف أمنا الحنون الرقة.

لم أعط الموضوع حقه آملا أن تتاح لي الفرصة لاحقا لإتمامه… وأحب أن أختم بعبارة كنت أسمعها من عجائزنا الركاويات.. حينما يردن التعبير عن إعجابهن بإمرأة بيتها نظيف ومرتب يقلن:(ياخيتي دحجي بيتها مقزقز مثل بيوت الأرمن).

ومن أجمل الصور صورة لقاء حبابة زكية المسلمة (ام عبد) والمرتدية (هدوم العرب) مع شقيقتها ماري الأرمنية (ام كيفورك) القادمة من حلب بعد فراق اكثر من ثلاثين عاما…سارويه لاحقا.

لكم منا كل الحب والتقدير احبتنا الأرمن..وإنجبيسيس؟

Arsen Kiumjyan