تجددت مظاهر الاحتجاج في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء، التي شهدت مظاهرة مركزية حاشدة يوم الجمعة الأولى من العام الجديد.
وتوافد العشرات من مختلف مناطق المحافظة، مرددين شعارات تدعو للوحدة الوطنية، مثل “الدين لله والوطن للجميع”، ومؤكدين على مبادئ الوطنية، ودولة القانون والمواطنة، وحاملين لافتات رافضة للمشاريع التقسيمة.
واستقبلت الساحة عدداً من الوفود الشعبية من محافظات حلب وإدلب ودرعا وسط مظاهر ترحيبية وأهازيج شعبية وخطابات داعية إلى وحدة الشعب السوري، وجسّد حضور هذه الوفود اللحمة الوطنية التي تتميز بها سوريا.
وحذّر تجمع معلمي السويداء من أن “التلاعب بالمناهج خط أحمر” وثمّن تراجع وزارة التربية في الحكومة المؤقتة عن قراراتها بهذا الشأن.
كما شهدت بلدة القريا وقفة احتجاجية أمام صرح قائد الثورة السورية الكبرى، تحت عنوان “رفض تحريف المناهج التعليمية” وندّد المحتجون بقرارات الحكومة المؤقتة التي تجاوزت صلاحياتها، ورفعوا شعارات تؤكد على وحدة الشعب السوري بكافة أطيافه وطوائفه.
ومن ناحية أخرى، عكست منشورات نشطاء من المحافظة على مواقع التواصل الاجتماعي، القلق العام بالمحافظة حول طريقة تعاطي الإدارة الجديدة معها وأخذ خصوصيتها بعين الاعتبار في المرحلة المقبلة.
ولا تزال التحديات الأمنية والسياسية والاجتماعية تلقي بظلالها على المشهد بالسويداء، خاصة بعد أن منعت فصائل محلية رتلاً عسكرياً تابعاً لإدارة العمليات العسكرية في سوريا من الدخول إلى المدينة.
تطورات المشهد
تتسارع الأحداث في سوريا منذ سقوط النظام السابق بطريقة غير مسبوقة، وأمام تعقد المشهد الذي تلعب فيه دول عديدة أدواراُ رئيسية، تتعدد السيناريوهات وتكثر التساؤلات بشأن المستقبل، في ظل موقع سوريا الاستراتيجي وتنوعها المذهبي والقومي بشكل قل نظيره.
ومع تشابك الملفات السورية في ظل الإدارة الجديدة تحت قيادة أحمد الشرع، ووجود خصوصية مرتبطة بالموقع والانتماء لكل منطقة سورية، تتزايد المخاوف من سيناريوهات بغيضة تتراوح بين الحرب الطائفية والتقسيم.
ومحافظة السويداء جزء من هذا المشهد المعقد، والملفات الشائكة المرتبطة به تبدأ من موقعها الحساس، ولا تنتهي عند خصوصيتها الطائفية كمحافظة ذات غالبية درزية وأقلية مسيحية.
ويتطلب الخروج من المشهد الحالي تحقيق التوافق بين المكونات المختلفة للمجتمع السوري،
فالبلاد بحاجة ماسة إلى حكومة جامعة تضمن حقوق جميع مكونات الشعب، ووضع إطار جديد يشمل تعددية حقيقية بعيداً عن تفرّد أي لون سياسي أو طائفي بالقرار.
وتعتبر الدعوة إلى مؤتمر وطني جامع خطوة مهمة بهذا الاتجاه، ولكنها تصطدم بمعوقات أهمها غياب التنوع السياسي في الحكومة المؤقتة الحالية، وهو ما قد يعيق تحقيق الإصلاح المطلوب.
قلق داخلي متزايد
يتداول نشطاء من المحافظة على مواقع التواصل الاجتماعي منشورات تعكس حالة من القلق على مستقبل محافظتهم.
ومع أن عناصر هيئة تحرير الشام لم تدخل إلى السويداء بعد، وماتزال المجموعات المسلحة المحلية تسيطر على الوضع فيها، تكثر التساؤلات حول طريقة تعاطي الإدارة الجديدة معها، وهل ستؤخذ خصوصية المحافظة بعين الاعتبار في المرحلة المقبلة.
وبعد سيطرة هيئة تحرير الشام على العاصمة دمشق، التقى قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع، وفداً من أهالي محافظة السويداء من بينهم نجل الشيخ حكمت الهجري الرئيس الروحي لطائفة المسلمين الموحدين الدروز لبحث التطورات في سوريا والخطوات المستقبلية.
ونسب إلى الشرع قوله في الاجتماع “إن التوجه القادم قائم على فكرة أن محافظ السويداء سيكون من أبنائها، والقوات العسكرية فيها ستكون منضوية تحت وزارة الدفاع”.
وأضاف “إن أهالي السويداء هم جزء أساسي من الدولة وتمكنوا من تخليص أنفسهم بأنفسهم من النظام البائد”.
وتسربت أنباء تفيد بأنه يتم الحديث في الكواليس عن نظام حكم لا مركزي في كل المحافظات،
واعتبر متابعون للأحداث أن التفاهم بين هيئة تحرير الشام وفصائل السويداء المسلحة إشارة على أن الإدارة الجديدة ستراعي خصوصية المحافظة.
ومع ذلك لم تخفف هذه الأنباء وتلك الإشارات من قلق المتابعين الذين يعرفون جيداً سياسة هيئة تحرير الشام، ومساعي أنقرة في العمل على تجميل هذه السياسة تسويقها.
منع دخول الرتل العسكري
منعت فصائل من السويداء رتلاً عسكرياً تابعاً لإدارة العمليات العسكرية في سوريا من دخول المدينة، وطالبته بالعودة إلى دمشق، وتجاوب المسؤول عن الرتل وعاد به إلى العاصمة بالفعل.
وضم الرتل العسكري عشرات السيارات لهيئة تحرير الشام وجهاز الأمن العام التابع لها، مما أدى لاستنفار فصائل غرفة العمليات المشتركة في السويداء.
وذكرت مصادر محلية أن قرار المنع جاء بتوجيه من الرئيس الروحي لطائفة المسلمين الموحدين الدروز، الذي أكد عدم السماح بوجود أي مظهر عسكري من خارج المحافظة.
ونقلت عن الشيخ قوله إن إعادة الرتل كانت بسبب عدم التنسيق بين القيادة العامة لإدارة العمليات العسكرية في العاصمة، وبين غرفة العمليات المشتركة في السويداء.
وكانت تعميمات قد وردت إلى غرفة العمليات المشتركة عن دخول رتل عسكري كبير إلى المحافظة في وقت متأخر من الليل، دون معرفة تبعيته، ودون أي تنسيق مسبق مع الفصائل المحلية بالمحافظة، التي استنفرت بدورها ونصبت الحواجز على طريق دمشق السويداء.
وعند وصول الرتل إلى أحد الحواجز، تبين أنه يتبع لجهاز الأمن العام في هيئة تحرير الشام، وقال المسؤول عنه إن وجهتهم مبنى قيادة الشرطة في السويداء.
وحسب مصدر من غرفة العمليات المشتركة، طلبت الفصائل من الرتل العسكري العودة إلى دمشق، لا سيما مع وجود اتصالات دائمة بين فعاليات السويداء وإدارة العمليات العسكرية في دمشق لترتيب المسألة الأمنية في المحافظة.
تجاوز العقلية الفصائلية
بعد سقوط النظام الاستبدادي، بدأ حلم السوريين ببناء دولة القانون والمؤسسات، ووضع هذا التحول المفاجئ السوريين أمام فرصة مهمة لتأسيس عهد جديد رغم المصاعب والعقبات.
وفي السويداء، التي تحررت بعد نضال تراكمي بلغ ذروته العام الماضي بانتفاضة شعبية صمدت لأكثر من عام، تبرز اليوم تحديات كثيرة على كافة الصعد.
ولعل أبرز هذه التحديات هو الحالة الفصائلية التي كانت ضرورة مرحلية قبل سقوط النظام، لمواجهة تحديات مصيرية مثل رفض أبناء السويداء الخدمة الإلزامية في صفوف النظام، وفرض معادلة “العين بالعين” في مواجهة اعتقال أبنائهم.
ومع التغيرات المتسارعة في البلاد، لا تبدو فصائل المحافظة المسلحة منسجمة مع هذه التطورات بما يكفي، واكتفى بعضها بتنسيق خجول ضمن ما أطلقوا عليه غرفة العمليات، وأصدروا بيانات حول تنظيم العمل لإدارة الشؤون الأمنية، دون تنفيذ هذه الوعود.
وشهدت السويداء اجتماعات عديدة بين قادة الفصائل قي محاولة لتوحيد الجهود، لكنها لم تثمر عن نتائج واضحة حتى الآن، وبات من الضروري أن تعمل الفصائل على وضع خارطة طريق للمرحلة المقبلة، تخرج بها من حالة التشرذم وقوى الأمر الواقع، لتصبح فاعلة في بناء الدولة التي طالما حلم بها السوريون.
والمطلوب اليوم هو التحول من الولاءات الفصائلية الضيقة إلى رؤية وطنية شاملة تضع الأمن والاستقرار فوق كل اعتبار.
ومن المهم أن يترافق ذلك مع مبادرات اجتماعية ومدنية تعزز دور القانون والمؤسسات، وتشرك المجتمع المحلي في عملية الانتقال إلى دولة المؤسسات، فبناء هذه الدولة يتطلب تكاتف الجميع من سياسيين وقادة رأي وعامة المواطنين، لإرساء قيم العدالة والمساواة التي تتطلع إليها الأجيال القادمة.
بحث عن حلول
للوقوف على حقيقة الموقف بالمحافظة والبحث عن حلول لمشكلاتها، التقينا مجموعة من الفعاليات الاجتماعية والفكرية فيها.
فطالب أستاذ التاريخ في جامعة السويداء بوحدة التيار المدني بكل أطيافه، وتوحيد الفصائل المسلحة تحت قيادة واحدة للخروج من مأزق تفتتها، واتفاق رجال الدين على هدف واحد بغض النظر عن الاصطفافات السابقة، ومواجهة التعديات على الأملاك الخاصة والعامة، والتصدي للاعتداءات على حرمات بيوت الآمنين والسطو عليها.
كما طالب بتشكيل مجموعة تمثل الجميع للحوار مع قيادة هيئة تحرير الشام، ومنع نزع السلاح إلى أن يتم كتابة دستور يجعل السكان مواطنين وليس طوائف وعشائر وعائلات، وتشكيل قوات أمنية مؤتمنة على مصالح السكان بقيادة ضباط الشرطة والجيش من أبناء المحافظة مدعومة من السلطة المركزية بدمشق.
بينما دعا ناشط في المجتمع المدني إلى الإسراع بتشكيل فريق للاتفاق مع حكومة الإنقاذ بدمشق لتمثيلها في المحافظة بعدد قليل مدعوم من أهالي المحافظة لتكون الجسر الآمن بينها وبين السلطة المركزية، فالتعاون والوصول إلى الصيغة المناسبة للجميع، يلغي حالة الفراغ التي تعيشها المحافظة وتخلق الشكوك وسوء التفاهم، وتترك مجالاً واسعاً للفتنة.
في حين أكد أحد قادة الفصائل المسلحة بالمحافظة على أنه لن يتم تسليم السلاح إلّا بعد انعقاد المؤتمر الوطني السوري الجامع، على أن تتم بعده مباشرة كتابة الدستور.
وقالت سيدة من قادة حراك السويداء إن الأكثرية من مختلف الأطياف متفقة على أن شخصية الشرع تحتمل وجهين عبر مسيرته بين انتمائه وما يطمح إليه في سوريا، وكل ما يطرح على الساحة السورية يؤكد أن الثورة الحقيقية هي الثورة الفكرية، ولكن كيف لشعب مورس عليه الطغيان والخوف والقمع والاعتقال أن يصبح بين ليلة وضحاها قادراً على تحديد رؤية سليمة، وأضافت أن هذا يحتاج إلى بداية الانطلاق من الكلمة إلى الفعل، لبناء سورية جديدة حرة ديمقراطية يحكمها القانون.