لكل السوريين

الحكومة اللبنانية.. ولادة متعسرة واتهامات متبادلة وصراعات معلنة وخفيّة

تقرير/ محمد الصالح

عندما تم تكليف سعد الحريري بتشكيل الحكومة اللبنانية، اعتقد كثيرون من اللبنانيين أنه سينجز تشكيلها خلال وقت قصير، بعد أن عجز مصطفى أديب عن ذلك بسبب عدم قدرته على التنسيق بين شروط “رؤساء الحكومات السابقين”، وبين مواقف الكتل النيابية التي تمنح الثقة للحكومة في المجلس النيابي.

ومر وقت طويل دون وجود أي مؤشر على قرب تشكيل هذه الحكومة في ظل الظروف التي يمر بها لبنان، في حين تفرض هذه الظروف الاستثنائية على كافة الأصعدة الإسراع بتشكيل حكومة قادرة على إخراجه من ظروفه الصعبة، كما تفرض تعاون جميع الأطياف السياسية اللبنانية لإنجاز هذا الاستحقاق، والترفع عن المصالح والحسابات الضيقة للأحزاب والطوائف من أجل مصلحة لبنان.

وقد أثار العجز عن تشكيل الحكومة استهجان اللبنانيين المعنيين بشكل مباشر بهذا الملف، والسوريين المعنيين بشكل غير مباشر فيه، من خلال تأثير ما يجري في أحد البلدين الجارين على البلد الآخر، إضافة إلى وجود أكثر من مليون سوري مقيم على الأراضي اللبنانية.

وتساءلت أوساط لبنانية عديدة عن الأسباب الحقيقية وراء هذا العجز:

هل الحريري غير قادر فعلاً على تشكيل حكومة متوازنة ترضي مختلف الكتل النيابية؟.

أم هو يتعمد ذلك تلبية لطلب من جهة داخلية أو خارجية ما؟.

وبدأت تظهر أصوات تطالب الرئيس المكلف بالإعلان عن وجود ما يمنعه من إنجاز مهمته، في حال وجوده، في حين تطالبه أصوات أخرى بالاعتذار عن تشكيل الحكومة لتكليف غيره بهذه المهمة.

فالبلاد لا تحتمل إضاعة الوقت والمماطلة في حين تتفاقم الازمات المعيشية في ظل ارتفاع أعداد من باتوا يعيشون تحت خط الفقر، بينما الرئيس المكلف يلتزم الصمت غالباً.

ويرى خصومه السياسيون أنه يتحصن بعدم وجود نص دستوري يلزمه بمهلة محددة لإنجاز التشكيلة الحكومية، أو بالاعتذار عن التكليف.

سجالات واتهامات متبادلة

تحوّل ملف تشكيل الحكومة إلى مادة للسجال بين رئاسة الجمهورية، والرئيس الرئيس المكلف بدأت بمقالة موجهة إلى الحريري نشرها المستشار القانوني للرئيس عون واعتبر خلالها أنه رهين الشروط التي وضعها رؤساء الحكومات السابقين الذين عرقلوا جهود مصطفى أديب لتأليف الحكومة.

وخاطبه بقوله “عزيزي الرئيس، أنت تعرف أو يفترض بك أن تعرف أن الوحيد القادر على مساعدتك لتخطي كل هذه الاعتبارات هو رئيس الجمهورية الذي أولاه الدستور سلطة التوقيع على مرسوم تشكيل الحكومة لإصداره ونشره”.

وحذّره من وضع الرئيس أمام الأمر الواقع، أو تحميله مسؤولية التأخير في تأليف الحكومة وتأليب الرأي العام عليه.

ونصحه بعدم الاستقواء بالمبادرة الفرنسية أو العقوبات الأمريكية على شريكه الدستوري الحتمي والفعلي، واعتبر أن “المهلة المعقولة لتأليف الحكومة قد مضت، وأن مبدأ حسن الإدارة يقضي بأن لا نلحق الأذى أو الضرر بالبلاد والعباد أو نُفاقمهما”.

رد على المستشار

وفي رده على مستشار رئيس الجمهورية، أشار المكتب الإعلامي للرئيس المكلف سعد الحريري إلى أن الأجوبة على تساؤلاته موجودة لدى رئيس الجمهورية.

وأشار المكتب الإعلامي في بيان له إلى أن “الرئيس المكلف التقى فخامة رئيس الجمهورية على مدى 12 مرة، في محاولة حثيثة للوصول إلى تفاهم بشأن تشكيل الحكومة، وهو في كل مرة كان يعبر عن ارتياحه لمسار النقاش، قبل أن تتبدل وتتغير الأمور مع الأسف بعد مغادرة الرئيس الحريري القصر الجمهوري”.

وأكد البيان أن الحريري يريد حكومة اختصاصيين غير حزبيين لوقف الانهيار الذي يعيشه البلد، وإعادة إعمار ما دمره انفجار المرفأ.

أما “فخامة الرئيس فيطالب بحكومة تتمثل فيها الأحزاب السياسية كافة، سواء التي سمت الرئيس المكلف أو تلك التي اعترضت على تسميته، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى الإمساك بمفاصل القرار فيها وتكرار تجارب حكومات عدة تحكمت فيها عوامل المحاصصة والتجاذب السياسي”.

مغالطات لا بد من توضيحها

بدوره رد مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية اللبنانية على ما ورد في بيان المكتب الإعلامي للرئيس الحريري رداً على رسالة مستشار رئيس الجمهورية، وأشار المكتب في بيانه إلى أنه برزت سلسلة مغالطات في بيان الحريري حول مواقف رئيس الجمهورية لا بد من توضيحها.

ولفت المكتب إلى أن الاعتراض الذي أبداه رئيس الجمهورية كان على طريقة توزيع الحقائب الوزارية على الطوائف، ورأى الرئيس أن المعايير ليست واحدة في توزيع هذه الحقائب، وطلب من الرئيس المكلف إعادة النظر بها، واضاف “كذلك اعترض الرئيس عون على تفرد الرئيس الحريري بتسمية الوزراء وخصوصا المسيحيين منهم من دون الاتفاق مع رئيس الجمهورية، علما بأن الدستور ينص على أن تشكيل الحكومة يكون بالاتفاق بين رئيسي الجمهورية والحكومة”.

ولفت المكتب إلى أنه “في كل مرة كان يزور فيها الرئيس المكلف قصر بعبدا، كان يأتي بطرح مختلف عن الزيارات السابقة، والصيغة التي قدمها في آخر زيارة له كانت مختلفة عن الصيغ التي تشاور في شأنها مع رئيس الجمهورية”.

وأكد أن “الرئيس عون لم يطرح يوما أسماء حزبيين مرشحين للتوزير، بل كان يطرح على الرئيس المكلف ضرورة التشاور مع رؤساء الكتل النيابية الذين سوف يمنحون حكومته الثقة ويتعاونون معه في مشاريع القوانين الإصلاحية التي كانت تنوي الحكومة اعتمادها”.

ونفى ما قيل عن سعي الرئيس لتمكين الأحزاب من مفاصل القرار، أو تكرار تجارب حكومات تحكمت فيها عوامل المحاصصة والتجاذب السياسي، ولكنه يسعى الوصول إلى تشكيل حكومة منسجمة وقادرة على مواجهة الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد وهذا يتطلب “مرونة في التعاطي وصراحة وواقعية، وليس عنادا وتحريفا للحقائق”.

رد على رد

وفي رده على المكتب الاعلامي لرئاسة الجمهورية، أكد المكتب الاعلامي للرئيس المكلف بتشكيل الحكومة على “مضمون البيان الذي صدر عنه تعقيباً على مقالة المستشار الرئاسي، لا سيما لجهة تسلم الرئيس المكلف لائحة من فخامة الرئيس بأسماء المرشحين للتوزير في الاجتماع الثاني بينهما، واختياره منها أربعة أسماء لشخصيات مسيحية، خلافاً لما أورده بيان القصر عن تفرد الرئيس المكلف بتسمية الوزراء المسيحيين”.

ولفت إلى أن “الرئيس المكلف تسلم في الاجتماع الأخير مع فخامة الرئيس، طرحاً محدداً لإعادة النظر في توزيع الحقائب، والتواصل مع الكتل النيابية بما يفضي إلى تمثيلها في التشكيلة الحكومية، وتوفير الثلث الضامن لأحد الجهات الحزبية”.

وأعرب بيان المكتب عن أمل الرئيس المكلف من رئاسة الجمهورية “إعطاء توجيهاتها بوقف التلاعب في مسار تأليف الحكومة، وضبط ايقاع المستشارين بما يسهل عملية التأليف لا تعقيدها”.

الحريري يأمل باعتماد التشكيلة الحكومية

أعرب الحريري عن أمله في الإسراع باعتماد تشكيل الحكومة، رغم وجود مشاكل سياسية معوقة، دون أن يتطرق إلى تفاصيلها، وجاء ذلك في مؤتمر صحفي عقده بعد لقائه الأخير مع الرئيس اللبناني تمنى خلاله أن يعتمد عون التشكيلة الحكومية التي قدمها له خلال هذا للقاء،

وأكد الحريري على قدرة هذه الحكومة، في حال اعتماد تشكيلها، على وقف الانهيار في البلاد، وقال “نحن بحاجة إلى حكومة اختصاصيين كي نوقف هذا الانهيار”، ولفت إلى أن الإسراع في تشكيلها هو الأساس.

ودعا مسؤولين لبنانيين، لم يحددهم، إلى “التواضع والتفكير بالمواطنين والمتضررين من انفجار مرفأ بيروت، وبمصلحة لبنان”.

وباسيل لا يأتمن الحريري

سارع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل إلى التأكيد على موقف تياره من التشكيلة الحكومية، وشكك في أهلية سعد الحريري لقيادة عملية الإصلاح في لبنان.

وقال باسيل في مؤتمر صحافي خصصه للهجوم على رئيس الحكومة المكلف إنه “لا يأتمن سعد الحريري، لوحده على الإصلاح”، وحمّله مسؤولية الأزمة السياسة الاقتصادية في البلاد.

وحول توزيع الحقائب في التشكيلة الوزارية، أشار باسيل إلى أن الحريري لا يحق له أن يسمي الوزراء المسيحيين بدلاً عن رئيس الجمهورية.

تفسير الدستور

لدى استقباله رئيس المجلس الدستوري اللبناني، قال الرئيس عون إن “دور المجلس الدستوري لا يجوز أن يقتصر على مراقبة دستورية القوانين فحسب، بل كذلك تفسير الدستور وفق ما جاء في الإصلاحات التي وردت في وثيقة الوفاق الوطني التي أقرت في الطائف في عام 1989”.

واعتبر أنه “من الطبيعي أن يتولى المجلس الدستوري، وهو ينظر في دستورية القوانين، تفسير الدستور، لأن القوانين تصدر انسجاما مع القواعد الدستورية المحددة وتترجم نية المشترع المرتكزة أساسا إلى نصوص الدستور”.

وأشار إلى “وجود ثغرات في النصوص التي تحدد صلاحيات الوزراء، لا سيما أولئك الذين يتقاعسون عن تنفيذ القانون، ويمتنعون عن تطبيق قرارات مجلس الوزراء ومجلس شورى الدولة، إضافة إلى تجميدهم مراسيم ترتب حقوقا لمستحقيها، وذلك خلافا لأي نص قانوني أو دستوري”.

ورأى بعض المراقبين أن في موقف الرئيس محاولة للضغط على الحريري عن طريق تفسير جديد للدستور الذي لا يفرض مهلة محددة لإنجاز التشكيلة الحكومية، أو الاعتذار عن المهمة.

والبرلمان يرد

وسرعان ما جاء رد المجلس النيابي اللبناني على لسان رئيسه نبيه بري الذي قال “تبياناً لما ورد عن لسان فخامة رئيس الجمهورية لرئيس وأعضاء المجلس الدستوري، فإن دور هذا المجلس هو مراقبة دستورية القوانين من دون أن يتعداها إلى تفسير الدستور الذي بقي من حق المجلس النيابي دون سواه، وهذا أمر حسمه الدستور ما بعد الطائف بعد نقاش ختم بإجماع في الهيئة العامة”.

وتستمر الصراعات المعلنة والخفيّة

تشير مصادر مطلعة على الأوضاع في لبنان إلى وجود اتفاق بين مستشاري الرئيس عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، لاستخدام كافة أنواع الضغط الإعلامي والسياسي على الرئيس المكلف سعد الحريري، وقد بدأ هذا الضغط بخطاب باسيل، وقوله إن الحريري شخصية غير إصلاحية.

وتتوقع هذه المصادر أن يقود التيار الوطني الحر حملة إعلامية وشعبية عبر غرفة عمليات باسيل التي تشكلت منذ مدة لهذا الغرض، ويركز على فتح ملفات فساد متعلقة بمقربين من الحريري في ملفات النفايات والاتصالات ومجلس الإنماء والإعمار، على أمل أن يتحول هذا الضغط إلى حراك شعبي وتظاهرات أمام مؤسسات محسوبة على الحريري، بعد انتهاء حالة الإقفال التي فرضتها الحكومة للحد من انتشار جائحة كورونا.

في حين ترى مصادر أخرى في زيارة سعد الحريري المفاجئة إلى تركيا، بعد زيارته للإمارات محاولة لإيجاد غطاء سني إقليمي يدعم موقفه الداخلي، أو يوحي بوجود هذا الغطاء كحد أدنى، كما ترى في زيارته إلى فرنسا محاولة للإيحاء باستمرار باريس بدعمه في تشكيله للحكومة، كي لا يظهر وحيداً في معركة تأليف الحكومة.

ورجّحت هذه المصادر أن يكون الحريري قد وضع الإماراتيين والفرنسيين في أجواء زيارته إلى تركيا “كي لا تُفسّر في غير مكانها” مع وجود خلافات عميقة في العلاقات بين هذه الدول.

ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه: هل يسير لبنان باتجاه إيجاد عقد اجتماعي جديد على أنقاض العقد الذي قامت بموجبه دولة لبنان قبل مئة عام، كما طرح الرئيس الفرنسي خلال زيارته السريعة إلى بيروت فور تفجير الميناء فيها، وما يزال يصرّ على موقفه هذا.

ولعل المستقبل القريب كفيل بالإجابة على هذا السؤال.