لكل السوريين

استفزازات تركيا وأحلام الوطن الأزرق، تقود المنطقة إلى حافة الهاوية

اجتاحت حالة جديدة من التوتر الشديد أوروبا ودول المنطقة بعد أن صعدت تركيا استفزازاتها للعالم بإعلانها إعادة إرسال سفينة إلى شرق البحر الأبيض المتوسط للتنقيب عن النفط في المياه التي تتنازع عليها مع اليونان، بعد الهدوء النسبي الذي ترافق مع اتفاق البلدين على إجراء محادثات جديدة بينهما.

وبعد بضعة أيام من إعلان وزير الخارجية التركي عن اتفاق مع نظيره اليوناني على محادثات استكشافية جديدة بين الطرفين، أعلنت أنقرة عن إجراء مسح زلزالي جديد في المنطقة، وإرسال سفينتها “أوروتش ريس” لتبدأ مهام التنقيب عن الغاز من جديد، وقال وزير الدفاع التركي، إن قواته البحرية ستؤمن الحماية اللازمة للسفينة.

وهو ما أدى إلى عودة التوتر، وتصاعد الصراع المحتدم بين البلدين على الغاز والنفط في شرق البحر الأبيض المتوسط، وعلى الحدود البحرية بينهما، حيث تدّعي تركيا وجود حقوق لها سلبت منها سابقاً، بينما ترى اليونان أن تركيا تحاول فرض سيطرتها، واستعادة إرثها العثماني المفقود بقوة السلاح.

وكانت حدة الخلافات بين البلدين قد تزايدت بعد الاتفاق التركي مع حكومة السراج على ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، وإعلان أنقرة أن المنطقة موضوع النزاع، باتت منطقة نفوذ تركية حسب هذه الاتفاقية.

واعتبرت اليونان ومصر هذه الاتفاق

ية تهديدا لمصالحهما، ووقع البلدان اتفاقية حول ترسيم الحدود البحرية بينهما، في إشارة موجهة لأنقرة تفيد بعدم قبولهما لاتفاقها مع ليبيا.

وهو ما أثار حفيظة تركيا، وزاد من توترها دخول مصر على خط النزاع التركي اليوناني.

فصعدت سياستها الاستفزازية وتصريحاتها العنيفة التي تطلقها بين الحين والآخر، وتحركاتها العسكرية في البحر المتوسط وبدء التنقيب عن الغاز والبترول في مناطق التوتر مع اليونان.

وفي خطوة استفزازية أخرى، أعادت تركيا وقبرص الشمالية التي تسيطر عليها، فتح جزء من شاطئ بلدة “فاروشا” المهجور منذ الصراع على الجزيرة المقسمة في 1974.

ردود فعل أوروبية

تتوالى ردود الفعل الأوروبية على إعلان أنقرة إرسال سفينتها إلى المنطقة من جديد. حيث عادت أثينا لمهاجمة تركيا، ونقل بيان صادر عن ا

لمتحدث باسم الحكومة اليونانية، قوله إن بلاده “لن تدخل في محادثات استكشافية مع أنقرة في ظل وجود السفينة 

في الجرف القاري اليوناني”.

وأعربت فرنسا عن قلقها نتيجة الخطوة التركية، وقالت المتحدثة باسم خارجيتها في مؤتمر صحفي “إن باريس تنتظر من تركيا تنفيذ التزاماتها والامتناع عن أي استفزازات جديدة”.

واللافت في ردود الفعل الأوروبية، موقف وزير الخارجية الألماني وتصريحاته، فقد

دعا أنقرة إلى “وضع حد لدورة التوتر والاستفزاز في المنطقة”، ورفض زيارة تركيا بعد زيارته قبرص واليونان كما كان مقرراً.

في حين كانت ألمانيا أكثر الدول الأوروبية قرباً من تركيا. وعندما لوّح الاتحاد الأوروبي بورقة العقوبات مطلع الشهر الحالي في وجه أنقرة، في حال عادت للتنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط، أطلقت المستشارة الألمانية، تصريحات مريحة لتركيا.

وقالت ميركل إن الاتحاد الأوروبي سيناقش في تشرين الثاني المقبل عدة ملفات تخص تركيا، منها الاتفاقية الجمركية وإلغاء التأشيرات على المواطنين الأتراك لدخول الاتحاد الأوروبي.

تنافر أوروبي.. تركي 

اعتبرت مؤسسة “البحوث السياسة الأوروبية”، أن أنقرة ابتعدت كثيراً عن منظومة الديمقراطية الأوروبية، بسبب خياراتها الملتبسة في مجالي الاقتصاد والديبلوماسية.

وبحسب تقرير المؤسسة، أصبحت تركيا دولة مستبدة بشكل تام من منظور الحكومات الغربية. واعتبر التقرير أن ما قامت به من تعديل دستورها، وممارساتها القانونية، لا يتلاءم مع تعهداتها أمام مجلس أوروبا، أو دول حلف شمالي الأطلسي.

وأوضح التقرير أنه في المجال الاقتصادي، تفاقمت أزمة الليرة التركية بشكل كارثي بسبب سياسة أردوغان وتدخله المباشر بالاقتصاد التركي، وهو ما أدى لتبعات وخيمة عليه.

وفي المجال السياسي، أشار التقرير إلى أنه بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس أردوغان، بدأت تركيا حملة قمع واسعة، وزادت قبضة السلطة على البلاد، وتم تبني دستور جديد نقل تركيا إلى النظام الرئاسي، وعزز نظام الحكم المستبد في تركيا.

وحسب التقرير تم هذا التغيير ليتمكن أردوغان من البقاء في السلطة بعد أن استنفذ الولايات المسموحة له بموجب قانون حزبه.

سياسة حافة الهاوية

يرى متابعون للوضع في البحر المتوسط أن السياسة التركية تدفع بالأمور إلى التصعيد من خلال التصريحات العنيفة التي تطلقها أنقرة بين الحين والآخر، وتحركاتها العسكرية في المنطقة، وإرسال سفن التنقيب عن الغاز والبترول إلى مناطق التوتر مع اليونان، ما يهدد بخروج الأمور عن السيطرة، ووقوع مواجهات عسكرية لا تعرف عواقبها.

إلى ذلك ذهب رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو عندما قال إن “تركيا تجازف بالدخول في مواجهة عسكرية بشرق المتوسط، لأنها تعطي للقوة أولوية على الدبلوماسية، وانتقد ما وصفه “بميل إلى الاستبداد يبدو واضحاً في ظل نظام الرئاسة الجديد في تركيا”، واتهم حكومة بلاده بإساءة إدارة الأزمة المتصاعدة في شرق البحر المتوسط.

تركيا ولعبة شد الحبل

تدرك تركيا خطورة الموقف الأوروبي من تجاوزاتها واستفزازاتها له، وتحرص في الوقت نفسه على تحقيق أطماعها في ثروات البحر المتوسط، وتأكيد نفوذها الإقليمي من خلاله. ولذلك تمارس سياسة تتراوح بين التهدئة والتصعيد في علاقتها مع الاتحاد الأوروبي.

فبعد ساعات قليلة من إعلانها إرسال سفينة التنقيب التركية، طلب أردوغان خلال مكالمة هاتفية مع رئيس المجلس الأوروبي “إحراز تقدم في مجال تحسين العلاقات بين بلاده والاتحاد الأوروبي” وزعم أن بلادة ترحب بعقد مؤتمر الاتحاد الأوروبي حول شرقي المتوسط، وتعتبره أحد مطالبها.

بينما اعتبر في وقت سابق الخطوات التي يتخذها الساسة الأوروبيون في القضايا الإقليمية استفزازية، ولن تساعد على التوصل لحل.

ويتخوف مراقبون من أن تركيا تحاول من خلال هذه السياسة شراء الوقت، وامتصاص غضب أوروبا، وتشتيت موقفها بطرح ملفات أخرى خلال المفاوضات، مثل عمليات نزع السلاح من الجزر في بحر إيجه وفقاً لاتفاقيات لوزان، وهو ما ترفضه اليونان، وترى أن المفاوضات تعني وقف الانتهاكات التركية، وأن فرض الاتحاد الأوروبي لعقوبات على تركيا بات أمرا محسوما، ولكن الأمر مسألة وقت فقط.

صراع تاريخي

الصراع بين تركيا واليونان لم يبدأ من هذه الأزمة، بل بدأ منذ سقوط الدولة البيزنطية واحتلال القسطنطينية، واستمر بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، والتوقيع على اتفاقيتي “سيفر ولوزان” وتأسيس تركيا الجديدة، وحصلت اليونان خلالهما على عشرات الجزر القريبة من البر التركي في البحر المتوسط، واشترطت اتفاقية باريس للسلام عام 1947، أن تكون هذه الجزر منزوعة السلاح.

ونتيجة لاستمرار الصراع بين البلدين حول هذه الجزر، اندلعت مواجهات بين تركيا من جهة، وقبرص واليونان من جهة أخرى في أعوام 1974 و1987 و1996، وكان السبب الأساسي لهذه المواجهات هو الخلاف حول حقوق التنقيب عن الغاز والبترول في بحر إيجه، والسيادة على بعض الجزر.

الوطن الأزرق.. أحلام أردوغان العثمانية

في العام الماضي قامت القوات التركية بأكبر مناورات عسكرية في تاريخ البحرية التركية، وحملت المناورات اسم “الوطن الأزرق”، ولم يكن المقصود بهذا الاسم معروفا آنذاك.

ومع ظهور رجب طيب أردوغان في مؤتمر صحفي على هامش هذه المناورات، عُرف معنى الاسم، حيث ظهرت خلفه خريطة كتب عليها بالتركية: “Mavi Vatan”، “الوطن الأزرق”.

وبحسب الخريطة، الوطن الأزرق هو مناطق من البحر الأسود، وبحر مرمرة، وبحر إيجة، والبحر المتوسط، وهي البحار المحيطة بتركيا، وتزعم أن لها الحق باستغلال واستثمار جميع الموارد الواقعة ضمن ما تعتبره حدودها البحرية.

وجاء في تقرير نشره موقع أتلانتيكو “التدخلات التركية اللافتة في الفترة الأخيرة، من ليبيا إلى شرق المتوسط وصولا إلى القوقاز، هي جزء من استراتيجية ينفذها الرئيس رجب طيب أردوغان، لإحياء الإمبراطورية العثمانية، والسعي إلى استقلالية الطاقة التي تسعى أنقرة إلى تحقيقها بالقوة، عبر تجسيد مفهوم الوطن الأزرق”.

تركيا تستفز أوروبا مجدداً

في خطوة استفزازية أخرى، أعادت تركيا وقبرص الشمالية التي تسيطر عليها، فتح جزء من شاطئ بلدة فاروشا المهجور بسبب الصراع على الجزيرة المقسمة منذ عام 1974.

ويرى مراقبون أن هذه الخطوة التركية في جزيرة قبرص ستؤثر سلباً على النزاع المحتدم بين أنقرة وأثينا بشأن الحقوق الإقليمية في شرق البحر المتوسط.

وأدانت الحكومة اليونانية الخطوة، وقال المتحدث باسمها “إن إعادة فتح منطقة في بلدة فاروشا المهجورة أمام الجمهور تتعارض مع القرار الصادر عن اجتماع القادة الأوروبيين الأسبوع الماضي”.

وشدد المتحدث على أنه “يتعين على تركيا أن تتراجع، وإلا فإن اليونان وقبرص ستطرحان القضية على قمة الاتحاد الأوروبي.

ومن جانبه انتقد الرئيس القبرصي التحرك التركي بالتواطؤ مع القبارصة الأتراك، لإعادة فتح جزء من المنتجع المهجور. وقال في بيان مكتوب “قرار تركيا ونظام الاحتلال بمد جزء من السياج في المدينة للاستخدام انتهاك غير قانوني وواضح للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي”.

فاروشا.. ورقة مساومة

منذ أن احتلت تركيا الثلث الشمالي من قبرص عام 1974، قسمت الجزيرة إلى قسمين، وبقيت فاروشا الواقعة على أطراف المنطقة العازلة، تحت السيطرة المباشرة للجيش التركي. وفرّ سكانها إلى الجزء اليوناني من الجزيرة، في ظل جمهورية قبرص العضو في الاتحاد الأوروبي.

وعام 1984، تبنت الأمم المتحدة قراراً يطالب بنقل المدينة إلى الأمم المتحدة وإعادة سكانها الأصليين إليها، لكن القرار بقي حبراً على ورق.

وكانت تركيا قد أعلنت العام الماضي أنها ستعيد الحياة إلى فاروشا، واعتبرت نيقوسيا هذا الإعلان استفزازاً، ودعت إلى إعادتها لها، أو وضعها تحت إدارة الأمم المتحدة.

وبقيت فاروشا ورقة مساومة بين الشمال الخاضع للسيطرة التركية، والجنوب الذي تسيطر عليه اليونان التي سعت لإعادته إلى سكانه القبارصة اليونانيين، وعرقلت تركيا هذه المساعي.

أوروبا تنذر تركيا

اتهمت ألمانيا وفرنسا أنقرة بمواصلة استفزازات موجهة ضد الاتحاد الأوروبي في شرق البحر المتوسط. وندد وزير الخارجية الألماني بقرار تركيا إعادة سفينة التنقيب إلى المياه المتنازع عليها بينها وبين اليونان وقبرص في شرق البحر المتوسط، وجاء ذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك عقده في باريس مع نظيريه الفرنسي والبولندي.

وقال الوزير الألماني “يتعين أن ننتظر لنرى ما إذا كان سيكون هناك أي تقدم خلال أسبوع، وعندها سندرس الموقف الواجب للاتحاد الأوروبي اتخاذه”.

ومن جانبه، ذكر وزير الخارجية الفرنسي أن تركيا “تقوم بأعمال استفزازية غير مقبولة”، وأشار إلى أن الكرة الآن في ملعب أنقرة، وهدد بأن “الاتحاد الأوروبي مستعد لتغيير ميزان القوى إذا لم تعد تركيا إلى الحوار”.

تقرير/ لطفي توفيق