لكل السوريين

بيروت حلبة للصراع الدولي.. فرنسا تحاول إعادة صياغة لبنان وتركيا تعرض خدماتها!

أعاد تفجير مرفأ بيروت العاصمة اللبنانية مجدداً إلى حلبة للصراع الدولي الذي سيزداد ضراوة خلال محاولات تأليف حكومة جديدة، تحاول الدول، وخاصة فرنسا، تفصيلها على مقاساتها، وبما يتناسب مع مصالحها في لبنان والمنطقة.

وبطبيعة الحال كان الرئيس الفرنسي ماكرون أول الواصلين إلى بيروت بعد الانفجار، وأول الداعين إلى تغيير سياسي فيها، حيث قال “هذا الانفجار يجب أن يكون بداية لعهد جديد”.

وماكرون يعرف أن لبنان لا يمكن أن يستمر على وضعه القائم حالياً، ويعرف أيضاً أن الخروج من هذا الوضع لا يتم إلّا بتوافق أطراف الصراع اللبناني على حل سياسي يخرج البلاد من أزمتها، وهو أمر يبدو شبه مستحيل بسبب تعنت الطبقة السياسية المسيطرة في لبنان.

وهذا التوافق يحتاج أيضاً إلى موافقة الأطراف الإقليمية والدولية اللاعبة بالملف اللبناني،  والمتنافسة فيما بينها على الكعكة اللبنانية.

فهل كان لبنان بحاجة إلى صدمة كبيرة، كتفجير مرفأ بيروت، لإحداث تغيير جذري فيه.

وهل كان من قبيل الصدفة أن يتواجد في بيروت وكيل وزارة الخارجية الاميركي ديفيد هيل، ووزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف في يوم واحد، حيث يتابع الطرفان عن كثب ما يجري على الساحة اللبنانية، في انتظار ما ستسفر عنه تحركات الرئيس الفرنسي.

فهم يعرفون أن فرنسا لن تتخلي عن لبنان.

صراع الدول في لبنان.. وعليه

بعد زيارة الرئيس الفرنسي إلى بيروت توافد عدد كبير من المسؤولين العرب والإيرانيين والأمريكيين والأتراك وغيرهم، والجميع يزعم أنه يريد مساعدة لبنان، والبحث عن حلول للأزمة اللبنانية السياسية والاقتصادية والمالية.

وهذا ما يشير إلى بداية صراع مفتوح على مستقبل لبنان والمنطقة، في ظل التمدد التركي والإيراني خلال السنوات الأخيرة، وتراجع الدور الأمريكي في المنطقة، وتزايد النفوذ الروسي فيها، واستعداد الصين لملء الفراغات التي تحدث، وتحضيرها لمشروع طريق الحرير.

والمعطيات المتوافرة في بيروت، وفي المنطقة، لا تشير إلى أن هذا الصراع سيحسم قريباً،

وستبقى المنطقة محور صراع إقليمي ودولي طويل، وستكون الأيام والأسابيع القادمة حافلة بالتطورات السياسية والأمنية والعسكرية المتوقعة، والمفاجئة، بانتظار انتهاء الانتخابات الأمريكية، ووضوح سياسة الولايات المتحدة الدولية في المنطقة.

أو حدوث صدمة كبيرة أخرى تتجاوز كارثة بيروت، وتعيد خلط الأوراق من جديد.

باريس تعيد صياغة لبنان

حتى الآن نجح الفرنسيون في استعادة زمام المبادرة قي لبنان، من خلال التحرك السياسي والاقتصادي والمالي السريع، وتقديم كل أشكال الدعم المالي والاقتصادي للبنان، وعقد مؤتمر دولي في باريس لدعم لبنان وإقرار حزمة كبيرة من المساعدات له.

وطرح الرئيس الفرنسي مشروع إقامة نظام سياسي جديد، طلب ماكرون، بلهجة حازمة، من الطبقة السياسية اللبنانية تنفيذ إصلاحات ملحة.

وقال “أنتظر من السلطات اللبنانية أجوبة واضحة حول تعهداتها بالنسبة لدولة القانون والشفافية والحرية والديموقراطية والإصلاحات الضرورية”. كما طالب بـ “إعادة تأسيس ميثاق جديد” وإجراء الإصلاحات التي يطالب بها المجتمع الدولي، مشيرا الى أنه سيعود في أيلول لـ “إجراء تقييم” للوضع.

وتشير التطورات المتسارعة في لبنان، من خلال استقالة حكومته، والتشاور حول تشكيل حكومة جديدة ترضي الفرنسيين، إلى أن فرنسا تسعى للعودة القوية إلى لبنان، ولن تسمح بتحوله إلى مسرح للنفوذ الإيراني أو التركي أو الروسي، أو للتنافس عليه فيما بينهم.

كما تشير إلى موافقة الأمريكيين على التحرك الفرنسي، شريطة أن يساعد على تقليص نفوذ حزب الله في لبنان، وإلى دعم دول عربية، وخصوصاً مصر، لهذا التحرك، بينما تحفظت السعودية والإمارات، على ما يجري، حيث لاهم لهما سوى الحد من نفوذ حزب الله وإيران، ومواجهة محاولات تركيا في بسط نفوذها على لبنان.

وهذا ما ينسجم مع الموقف الفرنسي في تنافسه مع تركيا، حيث كشفت مصادر سياسية، شاركت في اللقاءات التي عقدها الرئيس الفرنسي مع القيادات اللبنانية، أن إحدى النقاط الهامة التي أشار إليها ماكرون في هذه اللقاءات تحذيراته من الدور التركي المتعاظم في لبنان ومنطقة البحر المتوسط، وضرورة العمل على منع تحول لبنان إلى منطقة نفوذ جديدة للأتراك.

ويرى المتابعون للشأن اللبناني أن هذا الموقف الفرنسي يقابل بارتياح بالع من قبل عدد من الدول العربية الأخرى بسبب قلقها من تعاظم الدور التركي، والإيراني والروسي والصيني، مما سيؤدي إلى تراجع دور هذه الدول العربية في لبنان، وما قد ينجم عنه من انحسار للنفوذ الأمريكي والفرنسي فيه.

ويربط المتابعون بين هذا القلق، وبين الحملة التي شنتها بعض القوى اللبنانية والجهات الغربية، على الدعوة التي طرحت في لبنان من قبل بعض القوى السياسية ودعت للتوجه إلى الشرق لمواجهة الحصار الغربي، تحت شعار “تحييد لبنان هو الحل”، الذي تبناه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي مشددا على أن “لا خلاص للبنان إلا من خلال نظام الحياد الفاعل والإيجابي والملتزم، وهذا يخرجنا من هيمنة أي فئة لبنانية”.

وأنقرة تنافسها في بيروت  

“حيث يرفرف علم فرنسي ستجدون قبالته علماً تركياً”.

هذا ما قاله رئيس الحكومة التركي الأسبق أحمد داود اوغلو ذات يوم.

وهذا ما تحاوله تركيا الآن في لبنان، فبعد يوم واحد من زيارة ماكرون، وصل نائب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ووزير خارجيته إلى لبنان.

وبعد لقاء مع الرئيس اللبناني ميشال عون قال أوقطاي إن “تركيا مستعدة لإعادة إعمار مرفأ بيروت والمباني المجاورة له”، حسب وكالة الأنباء التركية الرسمية.

ووضع ميناء “مرسين” التركي في خدمة  اللبنانيين إلى أن يتم ترميم مرفأ بيروت، وقال “إن تركيا مستعدة عبر ميناء مرسين التركي القريب من لبنان لاستقبال الفعاليات التجارية اللبنانية لحين إعادة إعمار مرفأ بيروت، ومن ثم نقل السلع والبضائع بواسطة بواخر صغيرة إلى الموانئ اللبنانية الأخرى”.

واعتبر أوقطاي زيارته إلى لبنان بمثابة “شيك مفتوح لتقديم شتى أنواع المساعدات لأشقائنا”، على حد تعبيره.

زيارة ماكرون السريعة، وزيارة أوقطاي اللاحقة، حولت لبنان إلى ساحة جديدة للصراع والتنافس بين تركيا وفرنسا.

والتنافس الفرنسي التركي في المنطقة ليس جديداً, فقد بدأ التنافس بينهما في ليبيا منذ عام  2011 بعد سقوط نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

وبعد زيارة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي إلى ليبيا آنذاك، سارع أردوعان بزيارتها بعد يوم واحد أيضاً، لتأكيد الدعم التركي لها، وقطع الطريق على فرنسا وجهودها هناك.

ومازال التنافس بين البلدين في ليبيا قائماً، وينذر بالتحول إلى صراع عسكري في أي وقت.

دمشق.. في تداعيات الكارثة

من البديهي أن ما يحدث في لبنان سيكون له تداعيات في سوريا، وما يحدث في سوريا سيجد صداه في لبنان بغض النظر عن طبيعة نظام الحكم في كل منهما.

ومن المبكر الحديث عن تأثير ما يجري في لبنان على ساحات القتال السورية، وهل ستتجه الأمور فيها إلى التهدئة المؤقتة كما يرى بعض المراقبين، أم سيتم استغلال الإرباكات المحلية والدولية الناتجة عن الكارثة اللبنانية لتصعيد القتال في سوريا ومحاولة بعض الجهات حسم المعارك لصالحها، كما يرى آخرون.

ومن الاحتمالات المتوقعة أن تدفع تداعيات تفجير ميناء بيروت حزب الله إلى مراجعة حسابات تواجده  في سوريا، فقد ينشغل في المستقبل المنظور بالضغوط المتزايدة عليه نتيجة التفجير، إضافة إلى تداعيات قرار المحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.

وإذا حدث ذلك سيكون في صالح السياسية الروسية في سوريا التي تحاول تحجيم دور الحزب، والميليشيات الإيرانية، تنفيذاً لاتفاق عام 2018 بين الاميركيين والروس والأردنيين والاسرائيليين حول إبعاد إيران وحزب الله، عن الحدود في الجنوب السوري.

وعلى صعيد آخر، كان مرفأ بيروت بوابة مهمة لنقل مواد الإغاثة إلى سوريا، وفور تفجيره أعلنت الأمم المتحدة أن الأضرار الكبيرة التي وقعت في مرفأ بيروت ستؤثر سلباً على المساعدات لسوريا.

ولابد إذاً من البحث عن بوابات بديلة لنقل الشحنات الكبيرة من مواد الإغاثة إلى سوريا ولبنان.

ومع أن تركيا وضعت ميناء “مرسين” في خدمة  اللبنانيين، فقد يكون مرفأ اللاذقية من البدائل، مما يربك الدول الغربية في سعيها لدعم لبنان بعد كارثة المرفأ، دون التطبيع مع دمشق. وسيشكل ساحة تجاذب بين القوى الإقليمية والدولية في هذا الصدد.

وما من شك في النظام السوري سيسعى لتحقيق ذلك في محاولة منه لفتح ثغرة في جدار الحصار الاقتصادي والسياسي، والعزلة المفروضة عليه.

كما أن موسكو ستدفع بهذا الاتجاه لتحقيق هدف مماثل.

وشبح حرب أهلية في بيروت

طالبت كتل برلمانية في مجلس النواب اللبناني، وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، ورؤساء وزارات سابقين، ومفتي لبنان، بضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية للكشف عن الأسباب التي أدت الى وقوع كارثة المرفأ، وتحديد المسئوليات عنها، بدعوى أن إمكانيات القضاء اللبناني عاجزة عن كشف الحقائق كاملة، وأن التحقيق يتطلب تقنيات وأدوات غير متوافرة في لبنان.

وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ختام زيارته لبيروت “يجب إجراء تحقيق دولي مفتوح وشفاف للحيلولة دون إخفاء الأمور أولاً، ولمنع التشكيك”.

وبدوره أكد وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل خلال زيارته لبيروت أن فريقاً من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي سيصل إلى لبنان في الأيام القادمة للمشاركة في التحقيقات الجارية في الانفجار.

ورفض الرئيس اللبناني فكرة التحقيق الدولي، وقال في تغريدة له عبر تويتر إن “المطالبة بالتحقيق الدولي في قضية المرفأ الهدف منه تضييع الحقيقة. ولا معنى لأي حكم إذا طال صدوره، والقضاء يجب أن يكون سريعاً لأن العدالة المتأخرة ليست بعدالة”.

كما أكد وزير الداخلية اللبناني أن اللبنانيين ليسوا بحاجة لمحققين أو خبراء أجانب، فلديهم الكفاءة الضرورية للقيام بهذه المهمة.

وسواء كانت لجنة التحقيق دولية، أو محلية، لا يبدو أن نتائج تحقيقها ستنال قبولا من كافة الكتل والتيارات والأحزاب اللبنانية.

ولن تتمكن لجنة التحقيق الدولية، أو المحلية، من معاقبة المذنبين إذا كانوا من أطراف لبنانية، مثل حزب الله أو غيره، وسترفض هذه الجهات الحكم الصادر، وتنفيذ العقوبات التي يقررها.

وقد يقود هذا الرفض إلى مواجهات مسلحة، ربما تتطور إلى حرب أهلية جديدة في لبنان.

تقرير/ لطفي توفيق