لكل السوريين

ندف الثلج ونصاع بياضه

عبد الرحمن العيسى

ذات يومٍ ثلجيٍّ، كنتُ واقفاً أمام النافذة أتأمَّل الخارج.

ندفُ الثلج تتساقطُ راقصةً، وتحطّ على كلِّ شيء. على حبل الغسيل، على الأشجار، على الجدران، على إبريق الماء قرب المَشَارة المزروعة، على كلِّ شيء. ندفةٌ كبيرةٌ أقبلت نحوَ النافذة. أخرجتُ يدي من النافذة ومددتها، فحطّت ندفة الثلج بهدوءٍ على راحتي. يا لبياضها ونقائها! يا لشكلها الجميل وتقطيعها المنظّم! تمتمتُ قائلاً لنفسي: ليت ندفة الثلج هذه كانت تملك لساناً لتروي لي حكايتها!

وحينها هتفت ندفة الثلج وقالت: إن كنت ترغبُ في معرفة حكايتي، فاستمع لأرويها لك: قبل بضعة أشهر كنتُ قطرة ماءٍ في بحر قزوين، أمضي يومي متجوّلةً برفقة ملايين القطرات الأخريات. وفي أحد أيَّام الصيف، وبينما كنتُ أتجوَّلُ على سطح البحر، سطعت شمسٌ حارَّةٌ، فسَرَت فيَّ الحرارة وصرتُ بخاراً، وكذلك تحوَّلت آلاف القطرات معي إلى بخار. ولشدَّة خفَّتنا كنّا نرتفع تلقائيّاً ونحلّقُ نحو الأعالي. كانت الريح تطاردنا وتسوقنا حيثما تشاء. ارتفعنا كثيراً وما عدنا نرى البشر. كانت حشود البخار تأتي من كلّ صوبٍ وتلتصقُ بنا. وأحياناً كنّا نمضي نحن أيضاً لنلتصق ونمتزج بحشودٍ أكبر، ونغدو أكثر كثافةً واحتشاداً، ونرتفع بكثافةٍ أكبر وبأعدادٍ متزايدةٍ، أعلى وأعلى.

أحياناً كنّا نحجب الشمس، وأحياناً أخرى كنَّا نحجب القمر والنجوم ونزيدُ عتمة الليل.

بعض ذرَّات البخار كانت تقول: كنَّا قد تحوّلنا إلى غيوم، وكانت الريح تنفخُ فينا وتصنعُ منَّا أشكالاً غريبةً. أنا أيضاً عندما كنتُ في البحر، شاهدتُ الغيوم على شكل الجمل والإنسان والحمار وأشياء أخرى.

لا أعرف كم شهراً بقينا تائهاتٍ في السماء. كنّا قد ارتفعنا كثيراً، وكان الجوّ بارداً. ولشدَّة تداخلنا وامتزاجنا ببعض، لم نكن نستطيع أن نمدَّ أيدينا أو أقدامنا. كنّا نتحرَّك بشكلٍ جماعيٍّ، ولم أكن أعلم إلى أين نمضي، كما أنّي لم أكن أرى أمامي وما حولي. لم يكن ثمَّة أثرٌ للشمس، كأننا كنّا قد حجبناها، كنَّا نشغل مساحةً شاسعةً تبلغُ مئات الكيلومترات، كنّا على وشكِ أن نصبحَ مطراً ونعود إلى الأرض.

كنتُ شديدة التوق إلى الأرض. وبعد مضيّ زمنٍ، كنّا جميعاً، نصفنا ماءٌ ونصفنا بخار، وكنّا نستحيلُ مطراً. وفجأةً بردَ الجوّ، ورأيتني أرتعش، وارتعشَ الجميعُ كذلك. نظرتُ حولي وقلتُ لإحداهنّ: ماذا يحدث؟ أجابت: لقد حلّ الشتاء على الأرض هناك حيثُ كنّا. ومن الممكن أيضاً أن يكون الجوُّ حارّاً في أماكن أخرى، وهذه البرودة المفاجئة تحولُ دونَ تحوّلنا إلى مطر، انظري! إنّي أتحوّل إلى ثلج، أنتِ أيضــ……

لم تستطع رفيقتي أن تكملَ كلامها، صارت ثلجاً وهوت نحو الأرض. ومن بعدها أنا وآلاف الذرَّات الأخريات، صرنا ثلجاً واحدةً تلو الأخرى، وتساقطنا على الأرض.

وعندما اقتربتُ من الأرض، رأيتني أسقطُ فوق مدينة تبريز. كم كنتُ قد ابتعدتُ عن بحر قزوين!

ومن علوٍّ، شاهدتُ فتىً يضربُ بهراوةٍ كلباً ينبحُ متألّماً، وقلتُ لنفسي إن مضيتُ في هذا المسار فسوف أسقط على رأس هذا الولد، فرجوتُ الرّيح أن تنقذني وتأخذني إلى مكانٍ آخر. لبَّت الريح رجائي، فحملتني وأتت بي إلى هذا المكان، وعندما رأيتُ يدك تمتدُّ لتحملني أحببتك، و….

وهنا انقطع صوتُ ندفة الثلج. نظرتُ إليها فرأيتها قد غدت ماءً.

منقول