تمثل مدينة الطبقة في شمال سوريا نموذجاً مصغراً لما يمكن أن تكون عليه سوريا المستقبل، ما بعد سقوط نظام الأسد. فبعد أن تحررت المدينة من سيطرة تنظيم داعش، شرعت مكوناتها المتنوعة في بناء نموذج حكم ديمقراطي تعددي، قائم على الإدارة الذاتية والتكاتف المجتمعي، ونجحت خلال السنوات الماضية في تحويل المدينة من أنقاض الحرب إلى مشهد متكامل من التنمية، الاستقرار، وإحياء الهوية الثقافية. هذا التحول الجذري الذي شهدته مقاطعة الطبقة، يعكس إمكانية بناء سوريا جديدة من رحم المعاناة، تقوم على أسس العدالة الاجتماعية، وقيادة مجتمعية حقيقية.
تحرير الطبقة.. بداية لمرحلة جديدة
شهدت مدينة الطبقة تحولاً جذرياً عقب تحريرها من تنظيم داعش، حيث تضافرت جهود أبنائها من مختلف المكونات لإعادة بناء المنطقة وتحقيق نهضة شاملة في مختلف المجالات. ومن خلال تأسيس إدارتهم الذاتية التي احتضنت جميع الأطياف المجتمعية، تمكن السكان من تحقيق إنجازات بارزة في الأمن، والخدمات، والاقتصاد، والثقافة، ما جعل من الطبقة اليوم نموذجاً يُحتذى به في التكاتف المجتمعي والتنمية المستدامة.
الرئيس المشترك لمجلس مدينة الطبقة، حمود الرحيل، الذي يُعد من أوائل العاملين في الإدارة الذاتية منذ التحرير، أوضح قائلاً: “لأن الكومين هو اللبنة الأولى للبناء، بدأنا بتشكيل الكومينات فور تحرير المدينة، حيث انخرط الأهالي في تنظيمها بمختلف مكوناتهم. لاحقاً، تم تأسيس مؤسسات الإدارة الذاتية بجهود أبناء الطبقة، ما عزز التآخي والتلاحم بين مكونات المنطقة. واليوم يدير سكان الطبقة شؤونهم بأنفسهم، واضعين قوانينهم ونظامهم عبر ممثليهم ومجالسهم”.
وتضم الطبقة ثلاثة مجالس مدنية: في مدينة الطبقة، المنصورة، والجرنية، وتشمل 206 كومينات موزعة كما يلي: 60 كوميناً في مدينة الطبقة، 68 في المنصورة، و60 في الجرنية.
تعزيز الأمن والاستقرار
من جانبه، أكد الرئيس المشترك لهيئة الداخلية في الطبقة، رياض والي، أن الأمن والاستقرار كانا من أولويات الإدارة الذاتية منذ لحظة التحرير، حيث تم تفعيل قوى الأمن الداخلي ومؤسساتها المدنية، بما في ذلك المواصلات والتوثيق المدني. وأضاف والي: “منذ البداية، كان أبناء الطبقة متحمسين للمشاركة في حفظ الأمن الداخلي، حيث لعبت جميع المكونات دوراً واضحاً في تعزيز الاستقرار. كما أن التكاتف بين السكان وقوى الأمن الداخلي ساهم في ترسيخ الأمن، حيث قدم المواطنون البلاغات والمساعدة، مما عزز من حماية الأرواح والممتلكات”.
خرجت مدينة الطبقة من تحت سيطرة داعش وهي مدمرة ومنهكة، ما فرض تحديات جسيمة على البلديات، إلا أن هذه التحديات لم تمنع من تحقيق تحول جذري في الواقع الخدمي.
الرئيس المشترك لاتحاد بلديات الطبقة، علي المحمود، أوضح: “عند تحرير الطبقة، كان واقعها الخدمي سيئاً للغاية، فبدأنا العمل منذ ذلك الحين لإعادة تفعيل الخدمات الأساسية وتحسين الوضع. ركزنا على محورين أساسيين هما مياه الشرب والصرف الصحي، بميزانية سنوية متوسطة تبلغ 1.5 مليون دولار، مما ساعد في تحسين الخدمات بنسبة 70%”.
في ظل التدمير الذي لحق بالبنية الاقتصادية أثناء سيطرة داعش، باشرت الإدارة الذاتية بإعادة بناء هذا القطاع على أسس متينة. فالزراعة والصناعة تمثلان أهم مصادر الدخل للسكان، وقد نال هذان القطاعان اهتماماً بالغاً.
الرئيس المشترك لهيئة الاقتصاد والزراعة، محمد المطر، أشار إلى أن الإدارة الذاتية عملت على “إقامة مشاريع إنمائية نوعية لإيجاد اقتصاد مجتمعي متكامل يلبي احتياجات السكان. قمنا بدعم الزراعة وإنشاء بنية تحتية قوية لها، إلى جانب توفير بيئة مناسبة للصناعيين، ما شجع الصناعات المحلية وسهل العملية التجارية، التي باتت تشكل جزءاً مهماً من الواقع الاقتصادي في المقاطعة”.
لم تكن سيطرة داعش مجرد احتلال عسكري، بل كانت حرباً على هوية المجتمع وثقافته. فقد حظر التنظيم الفنون، ودمر المكتبات، وحارب وسائل التثقيف، ما فرض تحديات كبيرة على العاملين في الحقل الثقافي بعد التحرير.
الرئيس المشترك لهيئة الثقافة في الإدارة الذاتية لمقاطعة الطبقة، علي العلايا، أوضح أن: “وجود داعش في الطبقة طمس أغلب الثقافات ودمر الحياة الثقافية، ولكننا تقدمنا خطوات كبيرة، واستطعنا الوصول إلى نموذج ثقافي جميل يضم كل المكونات. من خلال ترميم المواقع الأثرية وتنظيم المعارض والمهرجانات، أصبحت الطبقة وجهة للمثقفين والفنانين من جميع أنحاء سوريا”.
بروز دور المرأة
لعبت المرأة دوراً محورياً في إعادة بناء مجتمع الطبقة، بعد أن كانت مقموعة تماماً في ظل سيطرة التنظيم. فقد انخرطت النساء في مختلف مؤسسات الإدارة الذاتية والمنظمات النسوية، وأصبحن في قلب عملية التغيير.
الرئيسة المشتركة لمجلس الطبقة المدني، مزكين عبد العزيز، أكدت: “قبل التحرير، لم يكن للمرأة أي دور، وكانت مقموعة بالكامل، ولكن بعد التحرير، انضمت المرأة لمؤسسات الإدارة الذاتية والمنظمات النسوية، وبدأت حياتها امرأة حرة. وخلال ثماني سنوات، أصبحت المرأة في الطبقة تمثل المرأة السورية الحرة وتقود نضال النساء في جميع أنحاء سوريا”.
وأحد أبرز التحديات التي واجهت الطبقة بعد التحرير كان قطاع التعليم، إذ توقف آلاف الطلاب عن الدراسة خلال سنوات الحرب. ورغم ذلك، تمكنت الإدارة الذاتية من إعادة تأهيل المدارس وتوسيع نطاق العملية التعليمية.
اليوم، تضم الطبقة 215 مدرسة، تؤمّن التعليم لـ 58 ألف طالب وطالبة، يدرّسهم 1618 معلماً ومعلمة. كما تم إنشاء 26 غرفة صفية وترميم عدة مدارس منها: نورجبان، محمد فارس، تل عثمان، وإعدادية الصفصاف، ما أسهم في توفير بيئة تعليمية مناسبة وضمان استمرارية التعليم.
ما تحقق في الطبقة لا يُعد إنجازاً محلياً فحسب، بل يحمل دلالة وطنية مهمة في ظل البحث المستمر عن مخرج من الأزمة السورية. فالمدينة التي خرجت من تحت ركام الحروب، أرست نموذجاً عملياً لحكم محلي ديمقراطي، قائم على الشراكة المجتمعية، وفعال في إعادة بناء الإنسان والمكان.