لكل السوريين

انتشار كبير للأمراض النفسية بين الأهالي، والسبب الانهيار الاقتصادي

تقرير/ سلاف العلي

يعاني الكثير من المواطنين في اللاذقية من اضطرابات نفسية نتيجة تردي الواقع المعيشي والخدمي منذ ما يزيد على13 عاما، حيث تبلغ نسبة الفقر 95% حسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية، مما أنتج عن انتشار عدد من الأمراض المزمنة والنفسية.

أعداداً كبيرة من المرضى المصابين بحالات نفسية، وهي الذهان والهوس والإدمان والاكتئاب، وأن أكثر المرضى يعانون من الاكتئاب، وتعود هذه الزيادة في حالات الاضطراب العقلي والنفسي إلى عاملين: أولهما الضغط والعامل النفسي، وثانيهما الوضع الاقتصادي الصعب، وهناك العديد من المرضى الذين يقومون بادعاء المرض للتهرب من مساءلة أو قضية ما، كالنصب والخدمة العسكرية الإلزامية، إضافة للنساء اللواتي يرغبن في الطلاق فيلجأن إلى المستشفى للهرب من أزواجهن.

ورغم قلة اختصاصي الطب النفسي والكوادر العاملة فيه، خاصة بالنسبة للممرضين الذكور، حيث إن أغلب كادر التمريض من الإناث ويصعب عليهن التعامل مع الحالات المصابة باضطرابات عقلية، وان النقص المتزايد في الكوادر الطبية لتخصصات الأمراض النفسية والعقلية في اللاذقية، يرجع إلى عاملين: مادي واجتماعي، حيث يبتعد الأطباء عن هذا التخصص نتيجة تدني الأجور بعد التخرج، إضافة للوصمة الاجتماعية التي يمكن أن تلحق بالأطباء في هذا المجال، ويشار إلى أن كثيرا من الأطباء النفسيين اتخذوا قرارا بالهجرة خارج البلاد بعد اشتعال الحرب وانهيار الاقتصاد وهبوط قيمة الليرة.

انعكاسات الانهيار الاقتصادي على الواقع المعيشي هو السبب الأكثر تأثيرا في انتشار أمراض الاكتئاب، إذ إن الضغوط الناجمة عن خوف الأسر من عدم إمكانية تأمين معاشهم اليومي تعد واحدة من الضغوطات الأكثر تأثيرا على صحتهم النفسية، الأطباء والاختصاصيون يقفون عاجزين أمام هذه الحالات، لأن جذرها لا يكمن في عدم قدرة المريض على التعامل مع آثار ناجمة عن واقع يمكن مغالبته أو هزيمته، ولكن مع واقع يفوق قدرة المريض على تجاوزه.

لا ينشغل المواطنون عادة بالأمراض النفسية التي قد يعاني منها أي فرد منهم مثل الاكتئاب واضطراب القلق أو اضطرابات الأكل أو اضطرابات ما بعد الصدمة وغيرها، فبعد سنوات من الحرب والأزمات المتعددة، يواجه المجتمع تدهورا بما يخص الحالة النفسية لكثير من الناس ما دفع العشرات والمئات للإقدام على الانتحار، وارتفاع معدلات الجرائم من قتل وسرقة بمختلف الفئات العمرية

إن السبب الأساسي وراء تدهور الوضع النفسي، هو الضغط الاقتصادي وأزمات المعيشة وعدم القدرة على تأمين أبسط الاحتياجات، قطع الكهرباء بشكل دائم، الشعور بالدونية للبقاء في البلد مقابل سفر الآخرين ونشرهم للصور والأطعمة.

قالت منظمة الصحة العالمية في إحصائية لها لعام 2024 إن سوريا واحدا من بين ثلاثين يعاني من حالة صحية نفسية صعبة، في حين يعاني شخص من بين كل عشرة أشخاص من أزمة نفسية تتراوح بين الخفيفة والمعتدلة نتيجة التعرض طويل الأمد للعنف، وأكدت مديرية الصحة النفسية التابعة لمديرية الصحة في اللاذقية، أن أكثر من مليون شخص يعانون من اضطرابات نفسية شديدة، وهنالك دور للأحداث والزلزال، في زيادة المصابين بهذه الاضطرابات.

يقول محمد وهو ريف بانياس: بحثت في معظم مدية اللاذقية وريفها القريب عن شقة للإيجار، وكانت الأسعار خيالية ومعظمها يفوق بدل الإيجار الذي كنت أدفعه بضعف المبلغ أو ضعفيه، وبعد أن فقدت الأمل في إيجاد شقة بديلة بالوقت المحدد، وتلقيت تهديدا من صاحب الشقة القديمة بأنه سيخرجني من المسكن ولو بالقوة، دخل محمد في حالة من الاكتئاب وفرط التفكير لمدة 5 أيام لينتهي به المطاف بأحد المستشفيات الخاصة، بعد سقوطه أرضا نتيجة هبوط حاد في ضغط الدم، حسبما بين له الطبيب الذي اكتفى بوصف بعض الأدوية المهدئة.

السيدة منى وهي مرشدة نفسية واستاذة مساعدة في قسم علم الاجتماع في جامعة تشرين قالت: وعي البشر باللاذقية بأهمية الطب النفسي هو ما جعل الكثير يراجعون عيادات الأطباء النفسانيين واخصائي الامراض العصبية، بل وحشية وقسوة الظروف التي يعيشونها وانسداد الأفق أمامهم جعلهم يبحثون عن قشة أمل يتعلقون بها لأنهم غارقون في آلام نفسية ويأس وخيبات قد تدفع الكثير منهم إلى الانتحار، وبالفعل حوادث الانتحار في سوريا كثيرة لكن لا يُعلن عنها في الإعلام الرسمي. وبما أنني عشت في اللاذقية وعاينت عن كثب أزمات الناس خاصة الجيل الشاب فقد اصطدمت بالإقبال الشديد على عيادات الطب النفسي عساها تقدم لهؤلاء المعذبين نوعا من الحل أو العزاء، أحب أن أنوه بتعريف الصحة النفسية في الطب النفسي: لا يجب أن نقول عن إنسان أنه بصحة نفسية جيدة وطبيعية إن لم يخضع لاختبارات في الطب النفسي. وعليه لا يجوز أن نعتبر أنفسنا وغيرنا أصحاء نفسيا إن لم نخضع لاختبارات في الطب النفسي، لعظيم الأسف فإن معظم الأطباء النفسانيين في اللاذقية (المدينة التي عشت فيها كل عمري) لا يعطون المريض النفساني حقه، لأن ضغط العمل والمراجعين كبير جدا عليهم، لهذا لا يتجاوز اللقاء بين المريض النفساني والطبيب خمس دقائق، يتخللها قطع الحديث باتصالات هاتفية دائمة للطبيب، ونفاذ صبر الأطباء فما أن يبدأ المريض النفسي بالكلام ومن العبارة الأولى حتى يعلو صوت الطبيب النفساني مشخصا حالته: عندك اكتئاب أو شخصيتك اكتئابية أو عندك وسواس قهري أو عندك ميول انتحارية أو فصام في الشخصية الخ! يا للسهولة والخفة وانعدام الوجدان التي تشخص فيها الأمراض النفسية، ولماذا يكون لدينا طب نفسي هام ويحترم المريض وكل ما في حياة السوري رديء؟ وأظن الأطباء النفسانيين يجدون عزاء كبيرا لضميرهم لأنه لا يوجد سوى دواء نفساني واحد وحيد يعطى لكل حالات الأزمات النفسية، وهو دواء سيئ بإعتراف العديد من الأطباء النفسانيين ومصدره إيران أو الهند، وثمة أدوية أخرى مهدئة تساعد في دعم تأثير الدواء الرئيسي. الحوار معدوم بين الطبيب النفساني والمريض، أي لا يتمكن المريض من الفضفضة بآلام روحه، ويشعر المريض أنه دفع مبلغا كبيرا على أمل أن يصغي إليه الطبيب النفساني ويخرج من العيادة بخيبة أمل يحمل وصفة طبية موحدة لكل المرضى عامة.

إمرأة تفترش الأرض وتلتحف السماء، مشهد أصبح مألوفا في شوارع اللاذقية، ورجل يمشي شبه عار يكلم نفسه دون أن يسأله أحد عن حاله ومشكلته، وأطفال صغار كثر (بملابس فضفاضة) يتسولون بين السيارات المزدحمة مثال عن الوضع المعيشي والنفسي المتردي في اللاذقية.

عبارات كثيرة تلخص جزءا من معاناة البشر، الذين يعيشون ويواجهون أزمات نفسية متفاقمة من الضغط والإجهاد والتفكير المضني في تأمين ثمن الخبز لأولادهم، في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي يعيشونها والحرب لم تنته حتى الآن.

السيد يوسف طبيب اخصائي جراحة عصبية باللاذقية أوضح قائلا: أن أكثر الأمراض النفسية شيوعا هي اضطرابات الاكتئاب والقلق، وليس بالضرورة أن يحتاج جميع المرضى النفسيين إلى علاج دوائي، إذ يعود ذلك إلى تقييم كل حالة وتشخيصها بشكل دقيق، وبناء على ذلك يتم تحديد نوع العلاج، أن التشخيص وتعيين الدواء بدقة هو مسؤولية الطبيب النفسي حصرا، وفي ظل عدم تواجد الطبيب النفسي وندرتهم خاصة، مع التأكيد على أهمية الدواء النفسي للحالات المؤكدة التي تحتاجه، تزامنا مع التدخل اللادوائي من قبل العاملين النفسيين الموثوقين، وتتفاوت المرونة والصلابة والمناعة النفسية من فرد لآخر، ولكن في المجمل غالبية المجتمع أصبح عرضة للإصابة بالاضطراب النفسي في ظل ظروف الحرب القاسية، وتتراوح شدته من الخفيف إلى المتوسط والحاد، وذلك وفق عوامل كل فرد.

السيدة أحلام طبيبة الامراض العصبية باللاذقية قالت: إلى أن أكثر المرضى الذين يراجعون العيادات النفسية هم من النساء، على الرغم من وجود الأمراض لدى الجنسَين، بينما أوضحت أن الذكور ما يزالون يخافون من المجتمع بسبب نظرته إلى المرض والطبيب النفسي على أنه وصمة عار، وأكثر الأمراض النفسية شيوعا خلال هذه الفترة، هي الاكتئاب، يليه الوسواس القهري والقلق الذي غالبا ما يترافق مع الاكتئاب، حيث أن الأعمار الأكثر إصابةً بها هي ما بين 25-35 عاما، ونحو 5-10 بالمئة منهم تراودهم الأفكار بالانتحار، وأضافت الدكتورة أحلام: ان الظروف المعيشية ساهمت بانتشار الأمراض النفسية، خاصة لدى الشباب والشابات، بعد أن أصبحت أهدافهم بـ بناء حياتهم عبارة عن أحلام وأوهام، لا يمكن تحقيقها في ظل الظروف الراهنة، ناهيك عن طول أمد الأزمة وامتدادها، من دون وجود حل يلوح في الأفق، هذه الأوضاع ألقت بتبعاتها على المجتمع، وازدادت يوما بعد يوم، إذ لا يخلو يوم من دون مفاجآت ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية، والتي يتبعها قرارات برفع أسعار الخدمات كالاتصالات والانترنت، بينما يبقى الارتباط وتكوين أسرة، حلما بعيد المنال بالنسبة للأغلبية منهم.

ونشير الى الانقطاع المفاجئ للأدوية النفسية والمهدئة والمنومة، كذلك انقطاع العديد من الأدوية المهمة الأخرى كأدوية الغدة والقلب والضغط وغيرها، إضافة لارتفاع سعر الأدوية دفعة واحدة في سوريا 300 بالمئة دون أن يزيد الراتب، أن الأدوية النفسية حتى ترفع مستوى السير وتونين في الدماغ (والذي يسمى هورمون السعادة)، حيث ينقص هذا الهورمون كثيرا لدى مرضى الإكتئاب وأمراض نفسية أخرى، تحتاج لأشهر من تناولها تتراوح في الحد الأدنى ستة أشهر وقد يستمر المريض في تناولها ثلاث سنوات وأكثر. وفي بعض الأمراض النفسية كالفصام يتناول المريض الدواء النفسي مدى الحياة، ويجب أن يتم قطعه بالتدريج على الأقل طوال أسبوعين أو ثلاثة، لكن فجأة انقطعت الأدوية النفسية، وفي حالة كهذه يصاب المرضى بنوب من الصرع وقد ينتحر البعض، وحتى الدواء الآمن (الليكزوميل أو الليكزوتان) وهو مضاد قلق مقطوع.

الكثير من الشباب المحبط وبعضهم جامعيون لجأ إلى المخدرات كحبوب الكابتاغون والحشيش وأنواع أخرى من المخدرات تشوش وعيهم وتخدر آلام روحهم ولو لفترة زمنية معينة، ويتعاملون مع مهربين معروفين في اللاذقية يؤمنون لهؤلاء الشباب اليائسين المخدرات الرخيصة ومن أسوأ الأنواع. وتمت مداهمة مجموعات من الشبان (معظمهم جامعيون) في شاليه على البحر أو في بيت أحدهم من قبل الشرطة، وتم سجنهم لأكثر من ثلاثة أشهر.

هذا هو واقع الطب النفسي في اللاذقية، طب نفسي وهمي، دواء سيء ثم مقطوع، نسبة انتحار عالية خاصة لدى الجيل الشاب، إدمان على المخدرات الرديئة للهروب من واقع ليس فيه بصيص أمل، الفقر والذل والجوع والهدر الوجودي بانتظار رغيف خبز معجن أو كيس أرز ينغل فيه الدود، إضافة لرداءة التعليم وانقطاع الكهرباء شبه الدائم وشح المياه وتلوثها. كل شيء مأساوي وموجع.