لكل السوريين

اللامركزية … بين الضرورة والمراوغة

التاريخ البشري شهد تطوراً كبيراً على صعيد التنظيم والتحكم بالمجتمعات، في البداية كان جميع البشر متساوون عندما كان المجتمع مشاعياً في العصر النيوليتي، ثم بدأت مرحلة إحتكار السلطة والثروة فظهر الحاكم والمحكوم ثم نشأت دولة المدينة حيث حكم الأسرة أو الزمرة، ثم ظهرت الإمبراطوريات الكبيرة المترامية الأطراف. ومع تزايد الوعي البشري إزدادت الصراعات ولم تعد الإمبراطوريات تلبي حاجة الشعوب التي تزايدت أيضاً وكان الحل في صيغة الدولة القومية أي يتم تقسيم الأرض حسب موطن كل قومية وباتت كل قومية تكافح من أجل إنشاء دولتها الخاصة بها، ولكن المجتمعات والقوميات كانت متداخلة بشكل كبير، مما دفع بالشعوب إلى التناحر فيما بينها ابتداءاً من القرن الثامن عشر، وتسبب ذلك في كوارث كبيرة وراح ضحية حروب النزاع على الحدود وسيادة القومية مئات الملايين من البشر إلى أن توصلت الشعوب التي عانت من ذلك إلى أن دولة القومية الواحدة المتجانسة أمر مستحيل نظراً لإختلاط القوميات والشعوب والعقائد وتداخلها عبر التاريخ الطويل للبشرية.

أوروبا التي عانت من كوارث دولة القومية الواحدة على مدى ثلاثة قرون ودخلت في حربين عالميتين وجدت الحل في اللامركزية، بحيث باتت كل أثنية أو مجموعة عقائدية تؤسس مؤسساتها وإداراتها ومجالسها المحلية ضمن الدولة الواحدة، وكل إدارة أو مقاطعة تكون شريكاً في القرار السياسي للمركز بشكل أو بآخر مثل البرلمانات المحلية أو تعدد المجالس التشريعية كالبرلمان ومجلس الشيوخ بحيث تكون هذه المجالس ممثلة لكل الإدارات والمجالس المحلية وتحدد السياسات التي ينفذها المركز. وهكذا تخلصت أوروبا من النزاعات والحروب وأصبحت واحة للإزدهار والسلام ما عدا بعض البؤر التي لم تصل إلى حلول ناجعة لأقلياتها القومية أو العقائدية مثل أسبانيا وانكلترا. بل تطورت العلاقات بين الدول لتأسيس إطار أكبر مثل بينيلوكس ثم الإتحاد الأوروبي الذي يعمل على إزالة حدود الدول القومية.

دول القومية الواحدة التي تأسست تحولت إلى دول إتحادية لامركزية حسب القوميات والشعوب والمجموعات التي تعيش فيها، بحيث باتت كل مجموعة بشرية تعيش بحرية وتعبر عن نفسها وخصوصياتها بدون قيد أوشرط ويشعر كل فرد بإنتمائه إلى المركز الذي يمثله إلى درجة الطوعية، فالألماني أو الفرنسي الذي يعيش في سويسراً لا يحتاج إلى الإنتماء إلى الدولة القومية في ألمانيا أو فرنسا، بل يفتخر بانتمائه السويسري.

مساعي إنشاء دولة القومية الواحدة في الشرق الأوسط مع القرن العشرين جلبت الكوارث على شعوب المنطقة، لأن رسم الحدود بين الدول لم يعتمد على التوزع الديموغرافي وكل دولة أصبحت تضم إنتماءات متعددة، وأصبحت كل دولة إنشئت على أساس قومي تعمل على صهر وتذويب القوميات الأخرى، وتشجع أتباعها في الدول المجاورة إلى التمرد ضد القومية الحاكمة، فلا القومية الحاكمة استطاعت صهر الشعوب الأخرى ولا الشعوب الأخرى ارتضت بالخنوع لقومية الأغلبية. ولهذا أصبحت منطقة الشرق الأوسط ساحة حرب منذ بدايات القرن العشرين.

العقلانية تتطلب الإستفادة من تجارب الآخرين. ونظرة واحدة إلى الدول المستقرة تكفي للإستدلال على أسباب الاستقرار فيها، وهو أن كل مواطن في تلك الدولة يشعر بالإنتماء الطوعي إليها وحرية التعبير عن ذاته، دون أن يخضع للإرغام أو التذويب أو يشعر بأنه مواطن من الدرجة الثانية بسبب إنتمائه الأثني أو العقائدي.

قبل فترة وجيزة ظهر المسؤولون في سوريا وقالوا بأن اللامركزية هي الحل في سوريا، وهذا كلام سليم، وهناك أطراف سورية دعت إلى ذلك منذ أمد بعيد ولكن أركان النظام اتهمت تلك الأطراف بالعمالة والإنفصالية ثم جاء رأس النظام بذاته يتحدث عن اللامركزية ويحاول تفسير ذلك بالقانون “107” الموجود سابقاً ولم يكن دواءاً لأي داء، لكونه قانوناً وليس مادة دستورية أولاً، ولم يتم تطبيقه تحت حكم البعث ثانياً، وكون هذا القانون لا يجعل ممثلي المكونات المجتمعية شريكاً في القرار السياسي للمركز ثالثاً.

قبل كل شيء نتمنى أن تكون هذه الكلمات قد صدرت عن قناعة مستقاة من تجارب الآخرين ومن حقيقة الشعب السوري الذي يمثل فسيفساء جميلة للإنتماءات الأثنية والعقائدية، ودفع ثمناً غالياً من دماء أبنائه في سبيل إستقرار هذا الوطن، وأن لايكون كلاماً عابراً في سبيل المراوغة أو الإلتفاف على مطالب الشعب. وإذا كان الأمر كما نتمنى فإن السبيل إلى تأسيس اللامركزية وكيفيتها وتحديد الصلاحيات والمسؤوليات بين المركز والأطراف غير ممكنة بمرسوم جمهوري أو بيان حزبي ومن طرف واحد، فاللامركزية تعني وجود أطراف متعددة، وصيغة اللامركزية تتطلب توافق كل الأطراف ومشاركتها، وإلا فإن مصيرها سيكون مماثلاً لمصير القانون 107 ما لم تتضمن الصيغة المتفق عليها مشاركة الأطراف في القرار السياسي الصادر من المركز.