لكل السوريين

انهيارٌ تام.. خلال عقد من الزمن الاقتصاد السوري يدخل الهاوية

يعيش الاقتصاد السوري في الفترة الحالية من عمر الأزمة التي دخلت عامها العاشر انهيارا غير مسبوق تاريخيا، فالليرة خسرت 98 ضعف من قيمتها في فترة ما قبل الأزمة، ووصلت نسبة السوريين الذين يعيشون في فقر مدقع لـ 90% تقريبا، في وقت لا توجد فيه بواد حل تفوح في الأفق تنهي صراعا شُبِّه بأكبر أزمة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية.

هذا بالإضافة إلى مشاكل البطالة والانعكاسات السلبية للضيقة الاقتصادية التي خلفتها الأزمات منذ2011. واقتصادياً، تركّزت الآثار الاقتصادية في انخفاض بالناتج المحلي ومعدلات الاستهلاك والاستثمار والتجارة الداخلية والخارجية. كما وتأثرت المالية العامة بارتفاع عجز الخزينة وبالدين العام وتدهور سعر صرف العملة.

معدل البطالة يتزايد بشكل كبير، حيث ارتفع معدل البطالة حيث أن عددًا متزايدًا من العمال قد فقدوا وظائفهم وأعمالهم، أو أنهم لم يعودوا قادرين على الوصول إلى أعمالهم، أو أنهم قد نزحوا داخل البلاد، أو أنهم قد أصبحوا لاجئين في دول أخرى. في ظل هذه الظروف، يحتاج الاقتصاد السوري لعدة سنوات للتعافي وذلك بعد أن ينتهي النزاع المسلح الداخلي.

كما أن العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على السلطة الحاكمة في سوريا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوربي وبعض الدول الإقليمية، كان لها أثرها السلبي على الاقتصاد السوري.

قبل الأزمة

تعد سوريا من أغنى الدول في المنطقة بمواردها الطبيعية، فهي تنتج القمح والقطن والزيتون والسكر ولحوم المواشي بكميات وفيرة، كما تنتج مصانعها مشتقات البترول والمنسوجات والمواد الغذائية والفوسفات والإسمنت، ويعتقد على نطاق واسع بأن فرص الاستثمار في الاقتصاد السوري فيما لو توفرت البنية الاقتصادية والحالة الأمنية الملائمة من أفضل الفرص في منطقة الشرق الأوسط نظراً لموقعها الجغرافي وتنوع مواردها.

يتوزع الاقتصاد السوري بين قطاعات مختلفة تساهم الزراعة بنسبة 17,1 % والصناعة بنسبة 27,3 % التجارة والخدمات التي تحتل وحدها أكثر من 55 % من المساهمة في الناتج المحلي.

لكن غزارة الموارد الطبيعية لا تنعكس بوضوح على المردود الاقتصادي ومعيشة السكان، وكانت نسبة البطالة تقدر رسمياً بأكثر من 8 % (إحصاءات 2010) فيما يشير مراقبون إلى أن النسبة الحقيقية أكبر بكثير، كما تقدر نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر بنحو 12 % لكن مصادر غير رسمية تقدر النسبة بأكثر من 30 %. أما نسبة التضخم – التي تشير إلى ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة- فتبلغ نحو 4,4 % (إحصاءات2010).

وقبل نحو عقد ونصف من الزمان، أكدت دراسة حول الفقر في سوريا، شاركت الحكومة بالإشراف عليها، أن الفقر يشكل ظاهرة عامة في البلاد، ولاحظت تلك الدراسة أن الفقر هو نتيجة للسياسات التي طبقتها السلطات لعقود في المجالات المختلفة بالدرجة الأولى، وأن ثمة عوامل أخرى كانت تغذي استمرار الفقر منها الأمية والبطالة.

أما بالنسبة لحقيقة الاقتصاد السوري بالأصل قبل الأزمة هو اقتصاد منهك بشكل كامل، وجاءت الاحتجاجات لتكشف عيوبه بشكل أكثر وأوضح فالآن نحن الحقيقة أمام حالة انهيار كامل للاقتصاد السوري وهذا ما زرعه النظام الموجود من عام السبعين الي الآن أدى إلى الوصول إلى مرحلة قريبة كثير من انهياره.

فترة الأزمة

مع بدأ الاحتجاجات في سوريا سارع الاقتصاد السوري بالانحدار رويدا، وعلى الرغم من خسارة الحكومة لمساحات شاسعة لصالح فصائل المعارضة وخروج معظم ثروات البلاد عن سيطرتها إلا أن الاقتصاد استقر لمدة 4 أعوام على ذات الوتيرة، مع بعض الترنحات إما نحو السلب أو الإيجاب أحيانا.

ولم يؤدي خروج آبار النفط وسيطرة مرتزقة داعش عليها بالتأثير بالشكل الكبير على الاقتصاد، حيث أن الاقتصاد عاش فترة استقرار أثناء تواجد التنظيم في سوريا، ما يعكس مدى حجم التنسيق بين التنظيم والحكومة التي أهلكتها حروب الداخل، والتي تركت مناطق الشرق الغنية اقتصاديا تحت رحمة أعتى تنظيم إرهابي عرفه التاريخ.

وساهم الفساد المتوغل بانحدار الاقتصاد بشكل كبير هو الآخر، ومع أن سوريا ليست لوحدها رهينة الفساد إلا أن الاقتصاد السوري برمته محمول عليها: طبيعة ونشأة وسلوكًا، وهو المحرك الرئيس للعمليات الاقتصادية، وسبب علتها.

أصبحت الرواتب الحكومية تقريبًا بلا قيمة، اندلعت احتجاجات ضد انخفاض مستوى المعيشة في جنوب البلاد. قيمة الليرة السورية منخفضة جدًا، لدرجة أنه انتشرت منشورات ساخرة على صفحات التواصل الاجتماعية تصوّر العملة السورية كورق للسجائر.

 

تعاني الحكومة ضغوطًا شديدة للحصول على المال، لدرجة أنها تضغط على رجال الأعمال الأثرياء للمساعدة في دعم الدولة، وهي خطوة دفعت قطب الأعمال السوري إلى انتقاد الحكومة علنًا، وأبرز دليل انقسام العائلة الحاكمة، والصراع على التفرد باقتصاد البلاد بين المخلوف وأسماء الأخرس، والذي كسبته الأخيرة، وباتت تتحكم وأهلها بكامل ركائز الاقتصاد السوري.

وأدى انهيار العملة السورية إلى تفاقم الأزمة، حيث كانت قيمة الدولار الأميركي الواحد قبل الحرب تعادل حوالي 50 ليرة سورية، ثم بلغت قيمة الدولار، في السنوات الأخيرة من الحرب، قرابة الـ 4 آلاف ليرة لكل دولار واحد.

الانخفاض الغير مسبوق أدى ذلك إلى انهيار القدرة الشرائية لموظفي الحكومة. في المقابل تضاعفت أسعار المواد الغذائية المستوردة، مثل السكر والبنّ والدقيق والأرز، مرتين أو ثلاث مرات.

مخلوف وأسماء، وحرب نفوذ المال

استطاعت أسماء الأخرس، زوجة الرئيس السوري قلب الطاولة على ابن خال الأسد، رامي مخلوف، وفي فترة وجيزة وجد نفسه لا يملك شيء، بعد أن أشارت تقارير عديدة إلى أنه كان يسيطر على أكثر من 60% من اقتصاد البلاد.

عندما رفض مخلوف الدفع إلى حكومة دمشق، أدارت الحكومة المسامير عليه، وحظرت عقوده، وجمدت أصوله، وسحبت حوالي 180 مليون دولار من الرسوم على سيريتل، المشغل الرئيس لشبكة الهاتف المحمول في البلاد، التي هي كالبقرة التي تدرّ نقدًا للسيد مخلوف.

ذكر محللون ومساعدون سابقون للأسد أن حملة رامي مخلوف العامة كشفت عن هشاشة جديدة في الدائرة الداخلية لابن عمته، وقال فراس طلاس، وهو شريكٌ سابق لعائلة الأسد انشق في وقت مبكر من الحرب: “يعاني النظام العديد من المشاكل الاقتصادية وغيرها، ولولا ذلك ما تجرأ مخلوف على الظهور في مقاطع الفيديو هذه”.

كعلامة أخرى على الاضطرابات في الحكومة، أقال الأسد رئيس الوزراء عماد خميس، في خطوةٍ قال محللون إنها تسعى إلى تخفيف اللوم عن الضائقة الاقتصادية في البلاد، خوفًا من أن يتذمّر الجمهور في المناطق الهادئة ويؤجج الاضطرابات.

كورونا زاد الطين بلّات

ساهم فيروس كورونا بتدني مستوى الاقتصاد السوري لمستويات إضافية، فكانت أولى الانحدارات انخفاض الليرة السورية من 500 ليرة إلى 2000 ليرة أمام الدولار الأمريكي.

ولم تصمد سوريا بوجه الفيروس، والإجراءات المتبعة للتصدي له، فسرعان ما عادت الحياة التي لم تتوقف بالأساس إلى طبيعتها.

وسجلت سوريا حتى اللحظة قرابة الـ 12 ألف إصابة في مناطق الحكومة، ومثلها في مناطق شمال شرقي سوريا، و21 ألف في مناطق سيطرة المعارضة التابعة لتركيا.

الصراع الروسي الإيراني

قال محلل سوري مختص بالشأن الاقتصادي إن “الروس والإيرانيون والحلفاء لن يقوموا بدفع الأموال إلى سورية، إنهم يريدون عائدًا على استثمارهم”.

وظهرت بوادر صراع روسي إيراني تلوح في الأفق، السمة الأبرز له هو الحصة الاقتصادية، فروسيا سيطرت كليا على الموانئ والمطارات ومصافي النفط، في حين أن إيران التي تتوغل عسكريا وطائفيا في سوريا حصلت على مخصصات الكهرباء.

الأسلوب الذي اتبعه الروس والإيرانيون في محاربة بعضها اقتصادية لمحاولة بسط النفوذ على الاقتصاد كان بحرب خفية، كان آخرها الحرائق التي التهمت الأشجار في الساحل السوري والتي امتدت لتضرب المنطقة الوسطى حتى وصلت لإدلب شمال غرب البلاد.

قيصر وتأثيراته

زاد قانون قيصر الذي تفرضه الولايات المتحدة على الحكومة السورية الأمور الاقتصادية سوءا، فتدنى مستوى الليرة رغم أنه لم يكن له تأثيرات كبيرة بحسب ما كان يروج له، إلا أن استمراريته لهذا الوقت ساهمت بشكل كبير في الانحدار الاقتصادي.

وقال محللون إن التشريع واسع للغاية، لدرجة أن كيفية تطبيقه غير واضحة تمامًا، لكنه خلق بالفعل حالة من الجمود، من خلال شركات المنطقة التي تتطلع إلى فرص للاستفادة من جهود إعادة الإعمار في سورية.

ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة، سجّل إجمالي الخسائر المالية التي مُني بها الاقتصاد السوري بعد 9 سنوات من الحرب أكثر من 500 مليار دولار، وأشار ذات المصدر، إلى تكبّد قطاع النفط وحده نحو 91.5 مليار دولار، فضلا عن القطاعات الأخرى التي طالها الضرر والفساد.

تركيا حاربت السوريين اقتصاديا

منعت تركيا برفقة الفصائل المرتزقة لديها تداول أي عملة جديدة أصدرتها الحكومة السورية، ما أدى إلى عدم تداول للعملة على مستوى كامل جغرافية البلاد، وبالتالي لم تحقق توازنا، كما وأن العملة الجديدة بالأساس مخصصة للتداول المحلي ولا تملك أي رصيد خارجي.

كما منعت تركيا وفصائلها المرتزقة تصدير الزيتون من مناطق “إدلب، عفرين، وأرياف حلب الشمالية” لمناطق الداخل السوري، ولم يقتصر الأمر على الزيتون لوحده، بل منعت عدة بضائع من الدخول إلى مناطق سيطرة الحكومة ومناطق شمال شرقي سوريا.

كما وساهمت بانخفاض كبير في نسبة الإنتاج من الزيتون حيث سمحت للمرتزقة بقطع عشرات الآلاف من الأشجار المعمرة، والتي أثرت اقتصاديا على السوريين في المناطق الأخرى.

لعبت تركيا دورا كبيرا في تدني الوضع الاقتصادي، فاستخدمت حرب المياه أكثر من مرة، ولا تزال تحسر مياه الفرات بداخلها، ما أثرت بشكل كبير على الإنتاج الزراعي في شمال شرق البلاد التي تعد السلة الغذائية لكامل سوريا.

ومنعت أكثر من مرة برفقة روسيا من السماح بدخول المساعدات عبر المعابر مع شمال شرق سوريا، وبالتالي حصرتها عبر معبر باب الهوى الذي يربط مناطق شمال غرب سوريا بالداخل التركي، ومعابر مع الحكومة السورية التي تحول دون وصول المساعدات لكامل السوريين.

الصناعة.. خسائر بالجملة

لقد أدّت الحرب إلى تدمير أغلب ركائز الاقتصاد السوري ومقوماته، حيث تمّ نهب مئات المصانع في حلب وغيرها مما أثّر سلبا على الاقتصاد المدني في سورية.

كما لحق الضرر بالصناعات الصغرى والمتوسطة، ما أدى إلى توقّف أغلبها عن العمل وهجرها أصحابها وعمالها نتيجة الحرب ما أحدث عجزا بالسوق الداخلية وسبّب معاناة كبيرة في المعيشة التي أضحت متدنية وشبه منعدمة لملايين الناس.

توقّف الإنتاج الصناعي حرم البلاد من مصادر دخل كبيرة، يرى محللون أن سياسات النظام تعمدت أيضا معاقبة خصومه ومعارضيه وتدمير أي مصدر إنتاج قد يقع تحت أيديهم.

لقد تعددت مظاهر الدمار الذي أصاب الاقتصاد بعد أن كانت سورية الأولى عربيا في إنتاج القمح، والثانية عالمياً في إنتاج القطن، وأحد أهم مراكز صناعة المنسوجات، فضلا عن قطاع صناعة الأدوية الذي كان يغطي 90% من الحاجة المحليّة، ويتم التصدير من هذه الأدوية إلى أكثر من 30 دولة بجودة عالمية، بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية.

ومن جانب آخر، تضرّر القطاع الزراعي في سورية طيلة عقد من الحرب نتيجة العمليات المسلحة سواء من قبل النظام أو الجماعات المسلحة ما دفع بعشرات الآلاف من المزارعين إلى الهجرة وترك أراضيهم.

وبسبب النقص والغلاء في أسعار الأسمدة والمبيدات، ارتفعت تكاليف الإنتاج الزراعي وأصبح من الصعب تغطية تكاليف هذا الإنتاج ولهذا السبب أيضا توقف الكثير من الفلاحين عن الزراعة.

كما أن الانقطاع المتكرر للتيّار الكهربائي حال دون استخراج المياه الجوفية حيث يستخدم المزارعون المضخات التي تعمل غالبا بواسطة التيار الكهربائي والوقود الأمر الذي أدى إلى تعرض المزروعات للعطش والجفاف.

وكان لتوقّف السياحة كذلك أثر مباشر في تعميق الأزمة الاقتصادية التي طالت الخدمات على اختلافها إلى جانب عشرات الآلاف من منتجي الصناعات التقليدية التي اندثر بعضها وتشرف أخرى على الانهيار.

ولا تزال العزلة التي يعيشها الاقتصاد السوري مستمرة جراء العقوبات المفروضة عليه، وآخرها “قانون قيصر” الذي يحظر التعامل مع سورية في أغلب المجالات، ما سبب نقصاً في كل الإمدادات، فضلا عن المحروقات والنفط والغاز، كما تتضمَّن العقوبات حظر التعامل مع المصرف السوري المركزي والمصارف التجارية، ولوائح طويلة من العقوبات على شركات، في حين أكد خبراء أمميون أن أسلوب العقوبات الذي فرض على عديد البلدان أصاب الشعوب بالدرجة الأولى قبل الحكام.