تعلمنا في أول مناهجنا الدراسية أن في السنة أربعة فصول، وعشنا طفولتنا نتحسس التبدلات في الطقس.. كنا نستقبل الشتاء بملابس ثقيلة ونتأهب في رحلتنا المدرسية للمطر والبرد، بينما يحل الربيع لتطير الفراشات فوق أسيجة البيوت ثم تتنقل بين ورد الحديقة وورق أشجارها.
يأتي الصيف بملابسه الخفيفة لنلجأ إلى ظل البيوت وبلاطها البارد، بينما لا نتذكر الخريف لأنه بلا هوية، فهو يجمع بين قسوة الصيف ونسائم الشتاء الخجولة.
إحساسنا بالفصول يتعلق بطفولتنا، لأن الأطفال أقرب إلى الطبيعة وحواسهم أكثر يقظة من سواهم.. كنا نرتجف من شدة البرد ونفرك أيدينا عند باب الصف قبل دخول المعلمين، وكنا نرحب بالصيف لأنه العطلة التي ليست لها حدود.
أغلب ذكرياتنا الجميلة تحصل في الشتاء، وأجمل لحظات عمرنا هي تلك التي نسرق فيها من الصيف رحلة عائلية وفي الربيع نحن نستنشق عطر الحدائق ونراقب تفتح البراعم الجديدة، وكنا نخرج إلى الشارع في تمشية لا يصيبها الملل.
في الشتاء الماضي سقط الثلج على مدينتي الرقة ، وهذه أول مرة نشهد فيها موسيقى الشتاء بكل طاقته، لكن الصيف جاء مسرعاً وخرب كل شيء، كان صيفاً قاسياً كأنه ينتقم من خطأ الشتاء، وها نحن نودع الصيف لكنه يرفض الوداع مثل عاشق متردد عند محطة الوداع.
نحن نكبر في الحياة لكن الفصول تختفي، تغيب الحدود بينها حتى لا نستطيع أن نميز أيام الانتقال بين الصيف والخريف.. هل نحن الآن في الخريف؟ كيف سنعرف ذلك وليست لدينا أشجار في الدروب ندوس على أوراقها، ونسمع خشخشة تكسرها تحت أقدامنا؟.. ترى هل غيرت فصول طفولتنا من طريقة حضورها أم أن حواسنا كبرت وتعبت من مراقبة الطبيعة؟
في سيمفونية الفصول الأربعة لفيف كأننا نصغي للوجود في بضع دقائق، نعيش فيها تبدل الطبيعة كأنها لعبة أبدية لتعاقب أمزجتها.. لقد كبرنا أيتها الفصول، ولم نعد نراقب أسراب الطيور المهاجرة، ولم نعد نرسم من الغيوم أشكالاً غريبة.. لم نعد نراقب نوافذ المدرسة يجرحها المطر، ولا نسمع حفيف الأشجار في الليالي الطويلة.
حتى فيروز التي قالت لنا حبيتك في الصيف، حبيتك في الشتي، أخذتها منا نشرة الأخبار من دون موسيقى.