لكل السوريين

السلطان.. والقيصر يتبارزان على الأراضي الليبية والرهان على الدم السوري

السلطان العثماني الجديد يؤكد عزمه على المضي بمغامرته الليبية “حتى النهاية”، ويصر على حسم حملته العسكرية بالنصر في سبيل حماية مصالحه في شرق البحر المتوسط وبحر إيجة، ويبسط نفوذه من سوريا والعراق حتى ليبيا.

ويخطط لإقامة قواعد عسكرية في ليبيا لتكريس نفوذه السياسي والعسكري فيها.

والجيش الليبي يحذر تركيا من التصعيد، ويؤكد أنه سيواجه أي تقدم عسكري تركي باتجاه مواقعه.

وأعيان القبائل الليبية في المنطقة الشرقية والغربية والجنوبية منها، يقررون التصدي للغزو التركي، ويفتحون باب التطوع للشباب الراغبين في الدفاع عن بلادهم.

والرئيس المصري يلوح بورقة التدخل العسكري في ليبيا، ويرى أن “جيش بلده قادر على تغيير المشهد العسكري في ليبيا بشكل سريع وحاسم”.

ويراهن على التعاون مع الجزائر وتونس لحل هذه الأزمة، ما قد يؤثر في موازين القوى السياسية والعسكرية، لما لهذه الدول من ثقل إقليمي، ونفوذ في ليبيا.

وماكرون يعتبر تدخل أردوغان في ليبيا تهديداً مباشراً لأوروبا لا يمكن التسامح معه. والتنافس بين السلطان العثماني والقيصر الروسي على الغنائم الليبية يتصاعد.

وحتى إذا اتفقت أنقرة وموسكو على تقاسم ثروات ليبيا، أو كان الأمر بخلاف ذلك، يبقى الدم السوري قرباناً لاتفاقهما أو اختلافهما في ليبيا كما في سوريا.

إحياء للعثمانية..  وأطماع بالثروات

بات معروفاً أن أردوغان يعتبر ليبيا جزءاً من الإمبراطورية العثمانية التي يحاول إعادتها للحياة في دول عربية مختلفة، بعد أن فشلت مساعيه في مصر بسبب سقوط محمد مرسي، وفي السودان بعد سقوط البشير.

ومع ذلك لم يكن هذا الهاجس وحده ما دفع أردوغان للقيام بغزو ليبيا التي تبعد آلاف الأميال عن تركيا، بل أطماعه بالثروات الليبية كانت المحرك الرئيسي لمغامرته، حيث تقدر الاحتياطات النفطية هناك بأكثر من 25 مليار برميل، في حين تصل احتياطات الغاز إلى أكثر من 120 تريليون قدم مكعب، حسب تقديرات وكالة الطاقة الأمريكية.

كما أن ليبيا تشكل له مدخلا لتأمين نفوذ سياسي واقتصادي في حوض المتوسط، والعمق الأفريقي، ودول المغرب العربي، حيث يأمل أن تتعاون معه قوى الإسلام السياسي هناك.

ولذلك يبدو زعمه الحرص على الحقوق الشرعية لليبيين مثيراً السخرية.

ولذلك أيضاً يبدو أنه مستعد للقيام بأي عمل يمكنه من تثبيت أقدامه في ليبيا أو في غربها على الأقل، حتى لو أدى ذلك إلى حروب إقليمية، وإهراق دماء السوريين.

تركيا ترسل مرتزقتها

استغلت تركيا الأوضاع الاقتصادية المزرية للسوريين في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة التابعة لها، وأعادت توظيف العديد من هذه الجماعات للقتال إلى جانب حكومة السراج في ليبيا، مقابل اغراءات مالية كبيرة.

ولعل ما قاله شاب سوري موجود في ليبيا لمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، يوضح الصورة تماماً حيث قال: “في عام 2018 قاتلت مع الجيش التركي للسيطرة على منطقة عفرين الكردية وكان الأتراك يقدمون لي 450 ليرة تركية شهرياً.

أما في ليبيا فقد كسبت خلال أربعة أشهر أكثر مما كسبته خلال كل الفترة التي قاتلت فيها بسوريا، فأنا أحصل على ألفي دولار شهرياً”.

وتشير معظم التقديرات إلى أن عدد المقاتلين السوريين الذين أرسلتهم أنقرة إلى ليبيا يتجاوز العشرين ألف مقاتل، وصلت طلائعهم أواخر العام الماضي بعد خضوع بعضهم لتدريبات قصيرة في معسكرات تركية، وتم نقل عناصر الجماعات المقاتلة من سوريا إلى المطارات التركية، ثم إلى ليبيا بوساطة طائرات مدنية.

وحسب صحيفة الغارديان البريطانية “إن المرتزقة السوريين الذين أرسلتهم تركيا وقعوا على عقود مع حكومة السراج في طرابلس للقتال إلى جانب قواتها لمدة ستة أشهر، على أن تتكفل تركيا بنفقات علاج الجرحى، وإعادة جثامين القتلى منهم إلى سوريا، ومنحهم الجنسية التركية في نهاية المدة”.

وروسيا تحذو حذوها

لم يقتصر تجنيد السوريين وإرسالهم كمرتزقة للقتال في ليبيا على تركيا فقط، فقد قام الروس كذلك بتجنيد عدد كبير من السوريين للعمل مع شركة فاغنر الأمنية الروسية التي تعمل في شرقي ليبيا الى جانب قوات حفتر منذ عام 2019، تحت ستار القيام بأعمال حراسة لمنشآت النفط في شرقي ليبيا.

ومعظمهم هؤلاء المجندين من المقاتلين السابقين في صفوف المعارضة الذين أبرموا تسويات ومصالحات مع الحكومة السورية بوساطة روسية.

وفي تقرير لها أشارت وكالة رويترز إلى تسارع حملة التجنيد الروسية خلال أيار الماضي

حيث تم توقيع عقود مع مئات المرتزقة، وتدريبهم قبل إرسالهم إلى ليبيا، برواتب تتراوح بين ألف، إلى ألفي دولار شهرياً للشخص الواحد.

كما أشارت صحيفة “بيلد الألمانية” إلى أن عقود شركة فاغنر مع هؤلاء ستكون في البداية لمدة ثلاثة أشهر، براتب يبلغ ألف دولار شهرياً.

وإذا أصيب أحدهم، أو قتل في ليبيا، سيحصل المصاب، أو أسرة القتيل، على ما يتراوح بين 25 إلى 50 ألف دولار.

تنافس.. ومحاولات هيمنة 

مع إرسال كل من تركيا وروسيا أسلحة ومقاتلين مرتزقة لدعم طرفي النزاع في ليبيا ينتقل التنافس بينهما إلى الساحة الليبية، ويتعاظم دورهما بمعظم أوراق الملف الليبي رغم استمرار قيام أطراف إقليمية ودولية بأدوار أقل أهمية، مما بات يهدد أي جهود أممية للتوفيق بين الأطراف المتصارعة وحل النزاع في ليبيا.

وبعد التصعيد الأخير بين تركيا ومصر، تزايدت احتمالات تحول هذا الصراع إلى مواجهة بين القوى الإقليمية، بدلا من المواجهات بين الفصائل التي تدعم جبهتي الصراع في ليبيا.

وحتى لو رغبت روسيا وتركيا بعقد صفقة بينهما لتقاسم النفوذ في ليبيا، سيواجه ذلك برفض هذه الأطراف الإقليمية، وخاصة مصر والإمارات.

وقد تتورط القوى الأجنبية في الحرب الأهلية، وخاصة فرنسا التي ترى في ليبيا غنيمة كبرى، فهي تملك أكبر احتياطيات من النفط والغاز في أفريقيا، وتقع في الجهة المقابلة لأوروبا بحيث يمكن تصدير نفطها مباشرة إلى الأسواق الأوروبية عبر البحر.

وصارت أية تسوية للأزمة الليبية لن تتم بغياب أنقرة وموسكو عن طاولة المساومات لضمان مصالحهما، ولكن الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا، لن تقبل بإبعادها عن هذه الطاولة لضمان مصالحها أيضاً.

وهذا ما يفسر مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من نظيره التركي واتهامه له بعدم الوفاء بالوعود التي تعهد بها في مؤتمر برلين الدولي بشأن ليبيا، كما وصف إرسال السفن الحربية التركية والمقاتلين السوريين إلى ليبيا بالانتهاك الخطير لما تم الاتفاق عليه في هذا المؤتمر.

ثم صعد من لهجته وحمل تركيا مسؤولية “تاريخية وإجرامية” عما يحدث في هذا البلد.

وقال خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره التونسي في العاصمة باريس، إن تركيا تمارس في ليبيا “لعبة خطرة” لا يمكن التسامح معها، واعتبر أن تدخلها في ليبيا يشكل تهديداً مباشراً لأوروبا والمنطقة.

وهكذا سيناريو قد يقوي موقع تركيا في صراعها على النفوذ مع القوى الاقليمية الأخرى، ولكنه سيدخل المنطقة في معادلات معقدة قد تقود محاولات حلها إلى صدامات اقليمية، وربما دولية.

تركيا تحسم أمرها

رغم كل التعقيدات والمخاطر التي تعصف بالمنطقة، أكد الرئيس التركي عزم بلاده على حسم حملتها العسكرية في ليبيا لصالح “حلفائها المحليين”، وقال في رسالة للأتراك بمناسبة عيد الأضحى: إننا عازمون على تتويج نضالنا الممتد من سوريا والعراق حتى ليبيا بالنصر لنا، ولأشقائنا هناك.

وكانت أنقرة قد تدخلت في ليبيا تحت عنوان مضلل هو تقديم “المشورة والتدريب بناء على دعوة من حكومة معترف بها دوليا”، ووقعت مع هذه “الحكومة” أكثر من اتفاقية، مثيرة للجدل، للتنقيب عن مصادر الطاقة، إضافة إلى مذكرتي تفاهم وقعتا تشرين الثاني من العام الماضي في اسطنبول بشأن التعاون الأمني والعسكري والسيادة على المناطق البحرية.

ومن خلال هذه الاتفاقيات، تحاول أنقرة الهيمنة على المنطقة التي تطمع بها في شرق البحر المتوسط، وتبعث برسالة إلى اللاعبين الآخرين في مجال الطاقة في المنطقة، مفادها أنه في حال غياب أنقرة عن المعادلة لن يكون وصول خطوط أنابيب الغاز إلى أوروبا سهلاً.

كما تسعى إلى كسب طرف مؤيد لها في الصراع الإقليمي على غاز المتوسط والتفاوض على ملف الطاقة في هذه المنطقة.

إدلب أفريقية

يثير التواجد الكبير للجماعات المتشددة الموالية لتركيا في ليبيا، وتزايدها المستمر، مخاوف كثير من المراقبين من تحولها إلى قاعدة للإرهابيين، حيث تتحدث الأنباء عن تواجد ما يزيد عن عشرة آلاف متشدد في ليبيا للقتال إلى جانب حكومة السراج في طرابلس.

وتتصاعد هذه المخاوف من احتمال تواصل هذه الجماعات مع فروعها ومثيلاتها، المتواجدة في بلدان المغرب العربي، ما يؤدي إلى ترسيخ هذا التواجد، واستمراره.

ومع استمرار تدفق المقاتلين السوريين الذين ترسلهم روسيا إلى ليبيا للقتال إلى جانب قوات حفتر، يتكامل نقل السيناريو السوري إلى ليبيا، وقد يخلق “إدلب أفريقية” على الأراضي الليبية أكثر خطورة، حيث لا توجد فرص للتخلص منها كما هو الحال بإدلب السورية.

ومنطقة عازلة

يسبب تواجد الجماعات المتشددة في ليبيا قلقاُ بالغاُ لمصر، وخشية من تسلل المسلحين والحركات الاسلامية المتطرفة إليها عبر حدودها الطويلة مع ليبيا، ولذلك تلوح بورقة التدخل العسكري في لمنع تحول ليبيا إلى ملاذ للمتشددين والإرهابيين وحركة الإخوان المسلمين الدولية التي تقاتلها الحكومة المصرية على أرضها، وهذا ما صرح به الرئيس المصري خلال مؤتمر القبائل المصرية الليبية في القاهرة، حيث أكد أن مصر لن تسمح لليبيا بالتحول إلى مركز وملجأ للمجرمين “حتى لو تطلب ذلك تدخل مصر المباشر في ليبيا لمنعه”، ويرى الرئيس السيسي أن “جيش بلده قادر على تغيير المشهد العسكري في ليبيا بشكل سريع وحاسم”.

ولكن من غير المرجح أن تذهب مصر إلى حد المواجهة المباشرة مع تركيا في ليبيا، والأكثر احتمالاً هو أن تقوم القاهرة بإنشاء منطقة عازلة لها في شرق ليبيا كما فعلت تركيا في الشمال السوري.

وبذلك تتكامل ملامح النسخة الليبية لسيناريو السلطان والقيصر في سوريا.

تقرير/ لطفي توفيق