حماة/ جمانة الخالد
في حماة، حيث كانت النواعير الشامخة تروي تاريخاً عريقاً يمتد لقرون، صارت تلك العجلات الخشبية العملاقة شواهد على إهمال مؤلم يهدد بزوال أحد أهم رموز المدينة. النواعير التي كانت تُغني وتئن تحت وقع المياه الجارية، صارت تصرخ اليوم بصمت، محملةً بآلام الإهمال والخراب الذي طالها، وكأن أحداً لم يعد يسمع صوتها.
حتى قبل سنوات، كانت نواعير حماة تلفت أنظار الزوار من كل مكان، وتُذكر الأهالي بأيام مضت حين كانت المدينة تعيش في كنف نهر العاصي، الذي كان شريان الحياة. لكن اليوم، تغير المشهد تماماً. إحدى أقدم النواعير في المدينة، الناعورة المحمدية، التي يعود تاريخها إلى مئات السنين، تقف الآن شبه متوقفة، خشبها متآكل، ومياه النهر لم تعد تصل إليها كما في السابق. يقول أبو خالد، وهو رجل في السبعين من عمره، كان يعمل في صيانة النواعير منذ شبابه: “كنت أسمع صوتها من بعيد، وكأنها تغني لنا، أما اليوم فصمتها يؤلمني أكثر من أي شيء”.
المشكلة لا تقتصر على الناعورة المحمدية وحدها، بل تطال معظم النواعير البالغ عددها عشرات المنتشرة على ضفاف النهر. فبعضها توقف عن الدوران تماماً، وبعضها الآخر يدور بصعوبة، وكأنه يحاول أن يصرخ طلباً للمساعدة قبل أن يسقط في النهر إلى الأبد. الخشب الذي تتكون منه هذه النواعير تعرض للتآكل بسبب عوامل الزمن، وغياب الصيانة الدورية، بل إن بعض أجزائها سُرق أو تكسر دون أن يتم إصلاحه.
يتحدث الأهالي عن أيام مضت، حين كانت النواعير مصدر فخر لهم، وحين كانت الدولة تهتم بها كتراث إنساني يجب الحفاظ عليه. لكن اليوم، يشعرون أن هذه الرموز التاريخية أصبحت في ذيل قائمة الأولويات. تقول أم ياسر، وهي سيدة خمسينية تعيش بالقرب من إحدى النواعير: “كنا نسمع صوتها ليلاً ونهاراً، وكأنها تهدئنا، أما الآن فالناعورة التي بجوارنا صامتة، وكأن روحها رحلت”.
وليس الإهمال هو المشكلة الوحيدة، بل إن التلوث الذي يضرب نهر العاصي ساهم في تعقيد الأزمة. النفايات والمياه الملوثة التي تصب في النهر أثرت على حركة المياه وجعلت دوران النواعير أكثر صعوبة. بعض الأهالي يتذكرون كيف كان النهر صافياً، وكيف كان الأطفال يلعبون على ضفافه، أما اليوم، فالرائحة الكريهة والقاذورات المنتشرة جعلت المكان أشبه بمكب للنفايات بدلاً من أن يكون تحفة طبيعية وتاريخية.
أما العاملون في الحرف المرتبطة بالنواعير، مثل صناعة الخشب والحدادة اللازمة لصيانتها، فقد فقدوا مصدر رزقهم شيئاً فشيئاً. محمد، الذي كان يعمل في ورشة لتصليح أجزاء النواعير، يقول: “لم يعد هناك عمل، النواعير تموت واحدة تلو الأخرى، ونحن معها”. بعض الحرفيين هاجروا إلى مدن أخرى بحثاً عن فرص عمل، بينما بقي آخرون يحاولون إصلاح ما يمكن إصلاحه بأيديهم، رغم عدم وجود دعم رسمي كافٍ.
المؤلم في الأمر أن النواعير ليست مجرد آلات خشبية تدور بالماء، بل هي ذاكرة حية للمدينة، وشاهد على حضارة امتدت عبر العصور. في الماضي، كانت هذه النواعير تزود الأحياء والسقايات بالماء، وكانت جزءاً من نظام ري متكامل ساعد في ازدهار الزراعة في المنطقة. لكن اليوم، ومع توقف الكثير منها، صارت مجرد ديكور مهمل في مدينة تحاول أن تمسك بما تبقى من هويتها.
بعض المبادرات الفردية حاولت إنقاذ ما يمكن إنقاذه، حيث قام نشطاء ومهتمون بالتراث بحملات تنظيف حول بعض النواعير، وحاولوا لفت انتباه المسؤولين إلى الخطر الذي يهددها. لكن هذه الجهود تبقى محدودة أمام حجم الإهمال الكبير.
في النهاية، تبقى النواعير صامتة، تدور ببطء إن دارت، أو تقف ساكنة كأنها تنتظر مصيراً مجهولاً. والأهالي، وهم يشاهدون هذا التراث ينهار أمام أعينهم، لا يملكون سوى الذكريات. ذكريات أيام كانت فيها النواعير تدور، والمياه تتدفق، وحماة كانت تتنفس الحياة.