عبد الكريم البليخ
في زوايا الاغتراب السوري، حيث تتناثر القلوب بين حدود لا تعترف بألم الفقد والانتماء، تبدو وثيقة السفر – الجواز السوري – وكأنها مرآة تعكس عمق معاناة لاجئين ومغتربين جُبلوا على الترحال القسري، فلم تعد مجرد ورقة رسمية، بل باتت أشبه بتأشيرة للكرامة… أو غيابها.
رغم مرور أشهر على سقوط نظام الأسد، لم تنجُ عملية تجديد الجوازات من إرث الفوضى والبيروقراطية المتعمّدة، بل ازدادت تعقيداً، فتضاربت الوعود، وتكررت الأعطال، وتعمّق شعور السوريين بأنهم لا يزالون عالقين بين أنقاض إدارة لا تملك من أدوات الدولة سوى اسمها.
الداخل السوري، هو الآخر، لم يكن أفضل حالاً. فالرسوم المرتفعة للجواز العادي، والتي تلامس 300 دولار، والمستعجل بـ800 دولار، تبدو فلكية في ظل اقتصاد ينهار، ودخل لا يكفي يوماً واحداً. في بلد تُقدّر فيه الرواتب الرسمية بعشرات الدولارات فقط، تغدو تكلفة الجواز أشبه بفدية لا مفر منها. ومع ذلك، ما يزال التقديم على الجواز العادي متوقفاً، ليُدفع الناس نحو الخيارات الأعلى ثمناً – في مشهد يعكس اختلالاً لا تفسير له، إلا الإهمال أو الاستغلال.
المشهد خارج الحدود ليس بأقل قسوة. المغترب السوري، الهارب من الجحيم نحو ملاذ مؤقت، يُواجه اليوم سلسلة متواصلة من العوائق تبدأ من حجز الموعد، ولا تنتهي عند سوء المعاملة داخل السفارات. فالمراكز القنصلية الإلكترونية التي أُعلن عنها كحل عصري، ما لبثت أن تحوّلت إلى متاهة رقمية، لا تعمل في أغلب الأوقات، أو تُقفل فجأة دون تبرير.
حتى بعد النجاح في تقديم الطلب، لا يًضمن السوري استلام جوازه دون عناء. قد يُطلب منه الحضور أكثر من مرة، لأن السفارات – ببساطة – ترفض إرسال الجوازات المنجزة بالبريد. تفاصيل صغيرة كهذه تُراكم وجعاً كبيراً، وتجعل من كل خطوة بيروقراطية اختباراً لصبر إنساني منهك.
الفيديوهات المسربة من داخل السفارات، والتقارير التي تتحدث عن طوابير الانتظار الطويلة، وانعدام الحد الأدنى من الخدمات، ليست استثناءً، بل تعبير عن مأساة مستمرة. من لاجئ ينتظر تجديد وثيقته ليلتحق بوظيفة أو يحجز مقعداً جامعياً، إلى مغترب يخشى ضياع إقامته، الجميع يعانون من نظام لا يسمع ولا يُجيب.
ولعلّ المفارقة المؤلمة أنَّ الجواز السوري – رغم هذا الثمن الباهظ – لا يفتح سوى تسع أبواب فقط دون تأشيرة. إنّه جواز بوجهين: وجه يمثّل بقايا دولة تحاول البقاء على الورق، ووجه آخر يعكس مأساة مجتمع يعيش شتاته في كل معاملة رسمية، في كل ختم، في كل انتظار.
في زمن يقال إنه ما بعد النظام، ما تزال الدولة السورية بعيدة كل البعد عن التغيير الحقيقي. وما تزال أبسط حقوق المواطن – كشهادة ميلاد قانونية أو جواز سفر صالح – تُستخرج بأساليب لا تليق بحياة كريمة، ولا بإنسان يبحث عن معنى وجوده في خريطة العالم.
في النهاية، ليست أزمة الجواز مجرد أزمة أوراق. إنها أزمة ثقة، وكرامة، وشعور دائم بأنك مُجبر على دفع أثمانٍ باهظة كي تثبت أنك موجود.