حلب/ خالد الحسين
يقف “أبو علاء ٥٥ عام” خلف طاولة خشبية في سوق باب جنين بحلب عرضت عليها أصناف كثيرة من البهارات وقد قسمت ضمن أكياس بلاستيك صغيرة لوزنات خفيفة ورصفت بإتقان حتى تجذب ألوانها المتبضعين في السوق.
“اتبع الرائحة تدلك على المكان”، لطالما رسمت هذه الجملة خريطة وجود، أبو علاء في أزقة وحارات حلب وقرى ريفها القريب حيث يبيع البهارات ويملأ المكان برائحتها.
تتبدل الرائحة وفق مواسم يعرفها الباعة وتحددها ذائقة السكان، واخزة في صيف مواسم الفليفة الحمراء ودبس البندورة، مليئة بالعصفر والحبة السوداء والشمرا واليانسون في مواسم كعك العيد، لطيفة مثل رائحة القرفة في الشتاء.
المواسم لم تعد وحدها من يحدد رائحة البهارات، مكانها في سيارة أبو علاء، كمياتها، لكن أشياء كثيرة طرأت على رحلة البهارات، مصدر البهارات، الطاحونة، الطرقات الوعرة، عدد الباعة ومعرفتهم، الوجوه، والقدرة الشرائية.
تشريح عملي لبائع وسيارة بهارات
بجانب السائق، وعلى الكرسي أو تحته أكياس من بهارات برائحة غير نافذة، تجنباً للعطاس يبتسم محدثنا صاحب سيارة هونداي زرقاء حوّلها إلى دكان يبيع فيه مواد غذائية وتموينية، وفي المقدمة بهارات..بهارات.
فصّل أبو علاء لسيارته منذ سنوات رفوفاً ومشابك من الحديد، وترك للجانب الأيمن من الصندوق الحديدي حرية الفتح، مثله مثل الباب الخلفي للسيارة، (على واجهتين) لجذب الزبائن، دون أن ينسى طبلية الخشب التي سيضعها أمام مكان وقوفه ويعرض عليها ما يراه الأنسب للسوق.
يبدأ وصف سيارة بهارات من صاحبها، أبو علاء رجل في منتصف العقد الخامس من العمر، ببشرة حنطية تميل إلى السمرة، وشارب خفيف وابتسامة دائمة. فوق قميصه سترة دون أكمام وبجيوب كثيرة لا تفارقه صيفاً أو شتاء، يستخدمها لوضع النقود وحساب الزبائن وتسهل عليه عملية الفرز العملية، النقود الورقية من الفئة الكبيرة في الجيب العلوي، الأكثر تداولاً من فئة خمسة ألاف حتى خمسمائة ليرة وفق مصفوفة ألفها منذ عشرة أعوام قضاها في السوق، ما تغير فقط نوع العملة وفئاتها، أما مكانها وتوزيعها فما يزال على حاله.
لا يبدأ أبو علاء يومه إلا بكؤوس كثيرة من الشاي، ولم يعرف يوماً إلا فيما ندر أن شمس الضحى أيقظته، الفجر بداية يوم مخطط به منذ سنوات كثيرة.
نحن لا نشمّ الروائح، البهارات عالقة في دهاليز كل شيء، بين طيات ثيابنا، تحت أظافرنا، ورائحتها في أنوفنا، مع الزمن يصبح الأمر اعتيادياً، والتمييز بين الروائح يصبح أكثر صعوبة.
الرائحة النفاذة تلك، هي من سحبت أبو علاء من يديه، قبل عشرة أعوام، ليكون جزء من تسويقها، رجل يتجول في سوق للعطارة بحلب قادماً من لبنان التي عمل بها كعامل مياومة كسر حمل الحجر والإسمنت ظهره خلالها، ليعود إلى مدينته، باحثاً عن راحة لجسده ولقمة عيش لأولاده.
سيارة هونداي كانت آخر تطوير على دكان أبي علاء المتنقل، سبقها بيك آب من نوع داتسون أحمر اللون، وقبله (طرطورة)، لمن لا يعرفها هي وسيلة نقل محلية بثلاث عجلات وصوت مزعج، محركها ربع أو نصف حصان، ودخانها يملأ الشارع الذي تسير فيه، بلون أخضر أو ما يحاكيه غالباً هناك أيضاً من باع البهارات على دراجة نارية يتنقل فيها، وضع عليها (خرجان) وملأهما بما لا يمكن أن يتخيل عقل الناظر أن تحمله دراجة.
مع كل مرحلة من مراحل تطور سيارة بهارات أبي علاء، كانت الأصناف والكميات تزيد وتتنوع، وفي كل سوق كان يحضر بائع البهارات كصديق لا بائع.
تماشياً مع تطور عمله، قسّم أبو علاء قسماً من بهاراته إلى أوزان صغيرة تتراوح بين مئة ومئتي غرام، بحسب الصنف، يضعها ضمن أكياس نايلون شفافة، تسهيلا لعملية البيع وبخاصة في مواسم الأعياد.
تلك الاكياس الصغيرة أو كما يسميها أبو علاء “الصرر” كانت تباع بأسعار زهيدة لا تتعدى الليرة السورية أو الليرتين، هذه الطريقة ما تزال معتمدة حتى اليوم مع اختلاف سعرها، فالصرة ذاتها أصبحت بثلاثة ألاف، يقول أبو علاء: “أعلم أن السعر مرتفع فيما لو قيس بأسعار الماضي، لكن كل شيء ارتفع ثمنه وتضاعف عند بياع الجملة”.
ينهي أبو علاء كوب الشاي ويعود لتفقد بضاعته في قفص السيارة، يعيد ترتيبها، المواد الأكثر طلباً يضعها بالقرب من باب السيارة، الأقل مبيعاً يدفع بها الى الداخل، هذه الأولوية تحددها ذائقة المكان الذي يقصده، و الاهتمام بترتيب البضاعة ومنح بعضها أولوية على غيرها في العرض، يتراجع مع اقتراب مناسبات عامة، مثل عيدي الأضحى والفطر، فمعظم أبناء حلب يتشاطرون تركيبة بهارات متقاربة تدخل في صنع كعك وحلويات العيد لديهم، لتتصدر وقتها نوعية مخصصة من البهارات كالشمرى وجوزة الطيب واليانسون والعصفر وغيرها، ليشكل كعك العيد قاسماً مشتركاً بين الزبائن .