لكل السوريين

حق الملح عادة اجتماعية قديمة في قرى الساحل السوري

تقرير/ سلاف العلي

تمتلك الشعوب الكثير من العادات والتقاليد المتوارثة منذ مئات الأجيال، ولا تزال رغم تغير الزمن تحاول الحفاظ على هذه الموروثات وحمايتها من الاندثار، ومن هذه العادات والتقاليد، تلك المنتشرة في الساحل السوري، حيث ان الأسر القروية في ريف الساحل السوري تكثف استعداداتها لاستقبال عيد الفطر عبر عادات عريقة متوارثة، سواء في الأسواق أو الأحياء أو المساجد أو بين العائلات.

من العادات الجميلة في تكريم المرأة، والاعتراف لها بالجميل صباح يوم عيد الفطر، وترتبط أصل تسمية حق الملح باضطرار الزوجة أحيانا عند إعدادها طعام الإفطار لأسرتها خلال شهر رمضان إلى تذوق الأكل دون ابتلاعه، والتذوق يتم بطرف اللسان حتى لا يفسد الصيام، للتأكد من اعتدال ملوحته قبل تقديمه، وأحيانا تقدم الزوجة طعاما شهيا طيلة شهر رمضان بملح معتدل دون أن تتذوق الطعام وهي صائمة معتمدة فقط على خبرتها ومقادير تقديرية حسب الإحساس ورؤية العين.

وتتمثل العادة في تقديم هدية قيمة للمرأة التي أطعمت العائلة في شهر الصيام، وتعد حركة تعبيرية عن الحب والمودة، وتسمى أحيانا بحق العشرة، تعبيرا عن سنين الحياة التي جمعتهم بحلوها ومرها، بمعنى أن هذه الهدية هي بمنزلة اعتراف بحق العشرة.

وفي القديم، كان النساء يطبخن الطعام في ظروف أصعب، إذ لم يكن هناك فرن ولا مخابز ولا مطاعم والعائلة كانت ممتدة، مما يضطر المرأة لقضاء ساعات شاقة من أجل إعداد وجبة الإفطار، وتشقى النساء في شهر رمضان، ويتعبن من أجل تقديم ما لذ وطاب لعائلاتهن مع قضاء شؤون المنزل رغم تعب الصيام دون تذمر، مما جعل أهالي قرى الساحل يخصصون عادة في يوم عيد الفطر تسمى حق الملح، تكريما لزوجاتهم واعترافا لهن بالجميل وتقديرا لتعبهن طوال شهر رمضان. ويخرج الرجال مبكرين لأداء صلاة العيد وتبقى النسوة في البيت للاهتمام بملابس الأطفال وتحضير الطعام وترتيب البيت ووضع البخور، ويتزين ويلبسن ملابس جديدة ثم تحضر ربة البيت القهوة والحلويات في انتظار عودة زوجها، وتستقبل المرأة زوجها عند عودته من صلاة العيد وهي في أبهى زينتها بعد أن تكون نظفت البيت ورتبته وبخرت زواياه، وفي يدها طبق الحلويات وفنجان القهوة. ويشرب الزوج قهوته، لكنه لا يعيد لها الفنجان فارغا بل فيه قطعة حلي من الذهب أو الفضة او النقود او اية هدية أخرى، ويتم استبدال الذهب بهدايا بسيطة مثل زجاجة عطر أو وردة وحتى كلمة شكرا لدى الأزواج الذين لا يمتلكون ثمن شراء الذهب، بحسب إمكانات الرجل وهذه الهدية تسمى: حق الملح، وإن الظروف المادية والاقتصادية للأسر تتحكم بمقدار الهدية ضمن حق الملح، الذي هو تكريم لصاحبة البيت واعتراف لها بالجميل على صبرها وتعبها خلال شهر رمضان وهناك من يطبق هذا الطقس في الأيام العشر الأخيرة من شهر الصوم.

وهذا التقليد ينتشر في الكثير من قرى الساحل السوري، ويؤكد الأهالي على ضرورة تبادل الكلمة الطيبة التي تعتبر أساس الرزق والتوافق، وهي أفضل هدية تقديرا لما قدمته المرأة خلال شهر رمضان، وأن تقديم الهدايا للزوجات أمر مستحب فهن الجندي المجهول في تحمل أعباء الحياة، فالهدية برمزيتها لا بقيمتها لاسيما في ظل تردي دخل الأسرة وسوء الأوضاع المعيشية، ويعيش الأهالي في قرى الساحل السوري أوضاعا معيشية ومادية صعبة يرافقها ارتفاع بالأسعار وانتشار البطالة الأمر الذي انعكس على الأهالي وحد من قدرتهم على شراء حاجاتهم.

وعلى الرغم من تردي الأوضاع الحياتية للأهالي في قرى الساحل السوري، إلا أنهم يحافظون على إرادتهم في التمسك بالحياة لاسيما في أيام الأعياد والمناسبات وتبادل عبارات الشكر والعرفان ليسود المجتمع حياة اجتماعية أفضل.

ويروى أن تاجرا كان جالسا مع عائلته صباح العيد يوزع ما تسمى: عيدية العيد، وهي دراهم من الفضة والذهب على أطفاله، حتى سقطت قطعة منها في فنجان القهوة، فقالت الزوجة هذا نصيبي، من باب المزاح. وعند غسلها للفنجان، وجدت الزوجة أن القطعة النقدية صغيرة جدا، فعادت إليه محتجة بالقول: هذا المبلغ لا يساوي حتى حق الملح الذي تذوقته، أي ثمنه، فعوضها الزوج بدينار من الذهب. وبعدها ذهبت الزوجة وأخبرت جاراتها بعبارة: انظرن ثمن تذوق الملح، ومنذ ذلك الحين أصبحت الهدية للزوجة صباح العيد عادة متوارثة.

وحق الملح أو إكرام الزوجة أو الأم أو الأخت في نهاية رمضان نظير جهودها، هي مسألة رمزية ومقدسة حيث أنهم في ممارسة هذه العادة يتوخون من خلالها تمتين العلاقات ، والقول انه: بيننا ملح، وبيننا طعام، وهي عملية كان أهالي الساحل قديما يوطدون بها علاقاتهم مع بعضهم البعض، وهذه العادة المتوارثة من الثقافات القديمة جدا، ويعطي المجتمع قيمة أساسية جدا للطعام وللعشرة والتقارب الذي يمثله الطعام، لذلك لا يمكن للشخص أن يدخل إلى بيت الأسرة الساحلية دون أن يقدم إليه طعام، لأن الطعام يسري في الجسم وفي الدماء، ومعنى ذلك أن دماء المشتركين والموحدين على مائدة واحدة امتزجت بالطعام نفسه فأصبحوا كتلة واحدة: تشاركنا الطعام – صار بيننا الملح – صار بيننا طعام، هي بمثابة التزام شفهي ضمني، لصيانة العهد بين متقاسمي الطعام، ويروم حول عدم خيانة أو غدر طرف لآخر، وهذه التمثلات اقتبسها أهالي الساحل من ثقافتهم القديمة والتي لازالوا يحتفظون عليها وتمثل رمزية عميقة جدا إلى جانب وسائل أخرى في العلاقات التي تساعد على التقارب وعلى الإخاء وعلى صيانة العهد بين الناس.

ولذلك هذه العادة أنها متجذرة بين أهالي القرى الساحلية وتتميز بالضيافة والكرم وبالرغبة في التقارب والمودة، لذا فان عادة حق الملح هي عادة جد قديمة ولازالت مستمرة وحية في العديد من الاسر الساحلية، التي تعمل على الحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم للاحتفال بعيد الفطر رغم مرور الزمن وتطوره، ورغم تراجع ممارسة بعض العادات والتقاليد والتي اندثر كثير منها، فإن عادة حق الملح ما تزال تقاوم الاندثار وما يزال كثير من أهالي الساحل  يمارسونها كل سنة ويحرصون على توارثها عبر الأجيال.