الهدنة في غزة.. انتصار للمقاومة الفلسطينية أم تمهيد لمجازر جديدة في القطاع
تحقيق/ لطفي توفيق
اختلطت مشاعر سكان غزة بين القلق والارتياح عندما تلقوا أخبار اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت الذي تم التوصل إليه بوساطة قطرية ومصرية، بين حركة حماس وجيش الاحتلال الإسرائيلي.
وتضاءلت مشاعر الارتياح عندما علموا أن شروط الهدنة تمنع النازحين في شمال القطاع من العودة إلى منازلهم للاطمئنان عليها.
وبعد سريان وقف إطلاق النار، ظهر بصيص أمل في إمكانية تمديد هذا الاتفاق القصير ليصبح هدنة طويلة الأمد.
وتحدثت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين عن آمال تعلقها على الهدنة للدخول إلى مناطق قطاع غزة الشمالي لتقديم خدماتها المتعذرة في ظل الاجتياح الإسرائيلي لها،
وقالت المتحدثة باسم الأونروا لابد من الذهاب إلى المناطق الشمالية “إذ أعطتنا السلطات الإسرائيلية الضمانات الأمنية”.
وأشارت إلى أن الوكالة تريد أن ترسل عيادات متنقلة إلى شمال غزة، وأن توزع الخبز والدقيق والماء فيها مثلما كانت تفعل في جنوب غزة، واستدركت “ولكن أربعة أيام غير كافية حتماً، بالنظر إلى حجم الكارثة الإنسانية”.
وذكرت المتحدثة أن الشاحنات المحملة بالمساعدات المسموح بدخولها غير كافية، وأن كميات الوقود التي سمح بدخولها تشكل “نصف ما تحتاجه أونروا لتشغيل شاحناتها ومولدات الكهرباء وضخ المياه ومحطة تحلية مياه البحر وتوفير الوقود للمستشفيات والمخابز”.
تفاصيل الاتفاق
يشمل اتفاق الهدنة تبادل خمسين من النساء المدنيات والأطفال الأسرى في قطاع غزة خلال مرحلتها الأولى، مقابل إطلاق سراح مئة وخمسين من النساء والأطفال الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية، على أن تتم زيادة أعداد المفرج عنهم في مراحل لاحقة من تطبيق هذا الاتفاق، ولن تشمل الصفقة الجنود الإسرائيليين والعمال الأجانب الذين كانوا في غلاف القطاع.
وتسمح الهدنة بدخول القوافل الإنسانية والمساعدات الإغاثية الغذائية والدوائية إلى جنوب قطاع غزة، بما فيها الوقود المخصص للاحتياجات الإنسانية.
كما تسمح لسكان قطاع غزة بالتحرك من شمالي القطاع إلى جنوبه عبر ممر آمن هو شارع صلاح الدين لمن يريد المغادرة.
وتفرض أن تبقى القوات الإسرائيلية في مواقعها، على أن تلتزم حماس وباقي قوى المقاومة بوقف تام لإطلاق النار، وتلزم قوات الاحتلال الإسرائيلية بوقف إطلاق النار التام، ووقف عمليات اختراق طائراتها لأجواء غزة عن طريق المسيرات لأغراض التجسس، لمدة ستة ساعات يومياً خلال أيام سريان الهدنة.
وكان بنيامين نتنياهو قد أبلغ وزراءه أن حماس وافقت على زيارة الصليب الأحمر لباقي المخطوفين في غزة، والتزمت بالبحث عن باقي المخطوفين غير المحتجزين لديها، والسعي لإطلاق سراحهم في مراحل لاحقة.
ويتوقع مراقبون أن يتم في اليوم الرابع من الهدنة إعطاء أسماء جديدة من المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس التي تعلن رغبتها في إطلاق سراحهم مقابل الإفراج عن أسرى فلسطينيين.
وحسب المراقبين فإن لدى الإسرائيليين مخاوف من أن تطيل حماس هذه العملية حتى تتحول الهدنة المؤقتة إلى وقف دائم لإطلاق النار، وهو ما لا تريده إسرائيل، حيث أكد نتنياهو في مجلس الوزراء أن الجيش الإسرائيلي سيواصل الحرب بكل ضراوة بعد انتهاء الهدنة.
قبيل سريان الهدنة
واصلت الطائرات الحربية الإسرائيلية قصفها على مناطق عدة في قطاع غزة، قبيل دخول الهدنة الإنسانية في قطاع غزة حيّز التنفيذ، ومن بينها غارة على منزلين في شارع الجلاء بحي الشيخ رضوان، مما خلف شهداء وجرحى، وخلفت الغارات الإسرائيلية الليلية عشرات الشهداء، بينهم أطفال، في مناطق سكنية بخان يونس ودير البلح ومخيمي النصيرات والبريج وسط غزة.
وأفادت المصادر الطبية الفلسطينية بسقوط أكثر من أربعين شهيداً في غارات إسرائيلية ليلية على منازل مأهولة وسط القطاع، وأشارت إلى عشرات المفقودين بعد هذه الغارات، خاصة مع انقطاع الاتصالات والقصف الإسرائيلي المستمر.
وأكدت وزارة الصحة في غزة ارتفاع عدد الشهداء شمالي القطاع إلى 120 في يوم واحد، بينهم أطباء بعد القصف الإسرائيلي الذي استهدف مستشفيات العودة والإندونيسي وسيارات الإسعاف في مستشفى كمال عدوان.
وشهدت مناطق عدة اشتباكات بين فصائل المقاومة وقوات الاحتلال، بينها منطقة الصفطاوي ومحيط حي الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة، وشرقي مخيم المغازي ودير البلح وسط القطاع.
وانتشلت فرق الإسعاف عدداً من الشهداء والجرحى من تحت أنقاض منزل عائلة في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، وحسب شهادة أحد الناجين، استهدف جيش الاحتلال المنزل بعدد من الصواريخ مما أدى إلى انهياره بالكامل.
وفي مخيم البريج، استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي بسلسلة من الغارات مربعاً سكنياً، مما أسفر عن استشهاد وإصابة العديد من الفلسطينيين.
كما تعرضت أحياء سكنية وسط غزة لقصف إسرائيلي أسفر عن استشهاد عشرين فلسطينياً، بينهم أطفال، وجرح أكثر من أربعين آخرين.
سريان الهدنة
دخلت الهدنة المؤقتة في قطاع غزة حيّز التنفيذ عند الساعة السابعة صباحاً، وبدأ سكان القطاع بالتنقل نحو منازلهم وأحيائهم وقضاء حوائجهم.
ومع الساعات الأولى لبدء سريان الهدنة اكتظت الشوارع في خان يونس بالسكان والنازحين الذين توجهوا نحو مناطق سكنهم، رغم تحذير جيش الاحتلال الإسرائيلي لسكان مناطق جنوبي قطاع غزة والنازحين إليها من التوجه إلى المناطق الشمالية ومدينة غزة خلال الهدنة المؤقتة.
حيث ألقت الطائرات الإسرائيلية منشورات فوق المناطق الجنوبية من القطاع تحذّر النازحين من العودة إلى شمال عزة خلال الهدنة وقال جيش الاحتلال فيها “إلى سكان قطاع غزة، إن الحرب لم تنته بعد، الوقفة الإنسانية مؤقتة، ومنطقة شمال قطاع غزة هي منطقة حرب خطيرة وممنوع التجول فيها”.
ومع ذلك تصاعدت الدعوات الشعبية للعودة إلى الشمال، وبدأ بعض الفلسطينيين بالعودة.
وانسحبت قوات الاحتلال من مستشفى الشفاء في غزة، بعد أن فجّرت مرافقه ومن بينها مولدات الكهرباء ومضخات الأكسجين وأجهزة الأشعة.
وبدأ دخول شاحنات تحمل المساعدات إلى القطاع عبر معبر رفح البري، كما بدأت سيارات الإسعاف بنقل جرحى عبر المعبر لتلقي العلاج خارج القطاع.
صفقة خاسرة
عكست عناوين معظم الصحف الإسرائيلية الصادرة قبل يوم من تنفيذ الهدنة مشاعر الخوف والهواجس التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي من الهدنة، وأشارت في تحليلاتها ومقالاتها إلى أن الصفقة تصب في مصلحة حماس التي تستغل الوقت من أجل إعادة ترتيب قواتها والجهوزية للجولات القتالية المستقبلية.
وأجمعت التقديرات الإسرائيلية على أن الهدف الرئيسي لحركة حماس من الهدنة المؤقتة هو استغلال الوقت وتنفس الصعداء، وإعادة ترتيب الأوراق والاستعداد لاستمرار للصراع، بعد أكثر من أربعين يوماً من الهجمات الإسرائيلية العنيفة.
كما أجمعت تحليلات الصحف الإسرائيلية على أن المجتمع الدولي سيضغط على إسرائيل من أجل وقف إطلاق النار لفترة طويلة، مقابل وعود بمزيد من صفقات التبادل بالمستقبل.
وتحت عنوان “إطلاق سراح المحتجزين لن يؤدي إلى فرحة عارمة”، كتب المحلل العسكري عاموس هرئيل في صحيفة “هآرتس”، مقالاً لخص الواقع الذي يعيشه المجتمع الإسرائيلي في ظل الحرب على غزة، والضبابية بشأن مصير ومستقبل المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس في قطاع غزة.
وذكر أن المشاعر والأجواء العامة في إسرائيل تتأرجح بين الرغبة في تدمير حكم حماس في غزة، والمطالبة بإطلاق سراح جميع المحتجزين الإسرائيليين في القطاع، وهذا لم يتحقق من خلال الهدنة الإنسانية وصفقة تبادل الأسرى الأولية.
رهان فاشل
عندما أطلقت إسرائيل حربها الوحشية على قطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى، أبدى نتنياهو لا مبالاة واضحة تجاه مصير الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، ونفّذ في القطاع سياسة الأرض المحروقة رغم خطورتها على المحتجزين فيه، بما يشير إلى تفعيل غير معلن، لبروتوكول هانيبال، وهو إجراء يستخدمه جيش الاحتلال لمنع أسر جنوده تحت عنوان “جندي قتيل أفضل من جندي أسير”.
ومع مرور الوقت فشل رهان نتنياهو على سياسة الأرض المحروقة لإجبار حركة حماس على الإفراج عن الأسرى فلم يتمكّن من إجبارها على ذلك، ولم يتمكّن من القضاء عليها كما أعلن منذ بداية الغزو الوحشي لقطاع غزة.
ومن غير المتوقع أن يتخلى نتنياهو بعد صفقة التبادل، عن مواصلة سياسته في هذه الحرب، ولكن مجرّد قبوله بالصفقة يعني أنه لن يكون قادراً على مواصلة حربه على غزة بالطريقة التي يروّج لها ويسعى لتنفيذها رغم الضغوطات الداخلية والخارجية التي يتعرّض لها، حيث يعتقد أنها تشكل له طوق النجاة من السقوط السياسي بتهمة التقصير، ومن المحاكمة بتهمة الفساد.
انتصار للمقاومة
لا شك في أن الهدنة واحتمالات تمديدها، تمثل لحماس بعض الضوء في نهاية النفق، وقد تثبت أن الإبادة الجماعية في غزة لم تعد مجدية، فتداعيات عملية طوفان الأقصى ستبقى هاجساً لدى المجتمع الإسرائيلي يصعب زواله، وقد يبتلع نتنياهو وحكومته الصهيونية المتطرفة على الأرجح، ويشكل فرصة لحماس لالتقاط أنفاسها، وإلزام إسرائيل بالاعتراف بها كطرف يتم التفاوض معه، بل ويمكن أن يلزمها بالتنازل عن تصعيدها الوحشي على القطاع، والتخفيف من طروحاتها العنصرية، وشروطها المجحفة لوقف القتال.
ومن المهم أن عملية تبادل الأسرى قد فضحت إسرائيل أمام العالم الذي بات يدرك أنها تقتل الأطفال وتعتقلهم أيضاً.
وتمكنت المقاومة الفلسطينية من التأكيد على أن الشعب الفلسطيني ومقاومته قادرون على مواجهة ترسانة الاحتلال العسكرية الضخمة إذا توافرت بيئة إقليمية ودولية مساندة.
وقد بدأت ملامح هذه البيئة على الصعيد الدولي من خلال الطوفان الشعبي الذي يجتاح أوروبا رفضاً للعدوان على غزة، والمظاهرات العارمة في معظم عواصم العالم، ومطالبة حكوماتها بوقف دعم إسرائيل وتسليحها، وبحماية المدنيين في غزة، وقطع بعض الدول علاقاتها مع تل أبيب واستدعاء دول أخرى السفراء منها.