لكل السوريين

“تبييض النحاس” مهنة تلفظ أنفاسها الأخيرة

تقرير/ خالد الحسين

يمسك “أبو عبدو” بكيس التبغ الخاص به بيده اليسرى ويحاول لف ورقة رقيقة على كمية قليلة من التبغ في يده اليمنى ويتكأ على كرسي خشبي متهالك وأمامه كوب من الشاي في وسط صحن نحاسي كبير, بدا وكأنه أرهقه التعب أو تكالبت عليه الظروف حتى غدا على هذا الحال وفي دكانه البسيطة الخالية من الأواني النحاسية إلا فيما ندر كانت أصدق على وصف حال مهنته التي آلت إلى الانقراض بفعل عوامل كثيرة، ويمارس الحرفي أبو عبدو مهنة تبيض الأواني النحاسية منذ نعومة أظفاره نتيجة إصرار من والده الذي فضل أن يورثه المهنة على تعليمه مهنة أخرى.

فيما يشبه السرد القصصي يعود الحاج أبو عبدو بالذاكرة ليخبر السوري خلال حديث معه داخل دكانه في سوق النحاسين في حلب القديمة عن أمجاد مهنة والده وأجداده التي كانت فيما مضى تزدحم بالزبائن وتشتاق للراحة ، وكيف امتهن الصنعة من أبيه، ولم يكن ذلك فقط بل سرد لنا كيف كانت تتم عملية التبيض بوضع الآنية في حفرة والدوران لتبيضها، وكيف تطورت المواد المستخدمة في عملية التبيض من روح الملح وحمض الكبريت ، القصدير ، وأسيد البطاريات والنشادر مركزا جل اهتمامه في التعبير عن مأساته الذاتية من احتمالية انقراض مصدر رزقه الوحيد.

يقول الحاج أبو عبدو: كنا نشتاق للجلوس دون عمل، فالزبائن كانت لاتعد ولا تحصى، ولكن الحال اليوم اختلف 180درجة، المهنة لم تعد كما كانت ، شيئا فشيئا تتلاشى ، تنقرض نتيجة التطور واستبدال الأواني النحاسية بأواني الألمنيوم والغرانيت ، مهنة والدي لم يتبق منها شيء سوى الذكريات، ما عليكم سوى التجول في سوق النحاسين والسؤال عمن يعمل في هذه المهنة ؟ ستأتيكم الأجوبة بأن الحرفي أبو عبدو آخر من بقي متمسكا بالعمل بها في سوق النحاسين من أصل 5 حرفيين كانوا يعملون بها.

أبو عبدو اليوم مضطر للتخلي عن مهنة أجداده التي منعتها عوامل كثيرة من الركض لمواكبة تطور الحياة بعد عقود من الازدهار كونها أصبحت عاجزة عن توفير العائد المادي الكافي لتأمين احتياجات عائلته.

يقول :“لو أن يدكم بالعمل لكنتم وجدتم لي العذر”، أعرف أن التخلي عن المهنة ليس قرارا سهلا ولكن ”ليس باليد حيلة” الوضع بات مأساويا عائدها المادي لا يسد حتى الرمق، وذلك نتيجة أن 99 بالمئة ممن كانوا يستخدمون الأواني النحاسية لم يعد يستخدمونها لغلاء ثمنها إذ وصل كيلو النحاس إلى 125 ألف ليرة سورية، فضلا عن غلاء المواد التي تستخدم في عملية التبيض إذ ارتفعت أسعارها بشكل جنوني، وعلى سبيل المثال مادة القصدير كنا نشتري الكيلو ب 12 ألف ليرة سورية اليوم وصل ثمن الكيلو إلى 450 ألف ليرة وعليه المهنة ستنقرض عاجلا أم آجلا، وهذا مصير لا مفر منه.

ويضيف قائلاً: حال المهنة يتردى يوما بعد يوم، أيامها باتت معدودة ، وأفق حياتها شارف على الانتهاء، تمر علي الأسابيع والشهور أجلس أمام الدكان دون عمل، ففي أفضل الأحوال أقوم بتبيض قطعة نحاسية واحدة لا أكثر كل” حين ومين ” وبهامش ربح قليل من أجل الحفاظ على مصلحة أجدادي لا أكثر مبينا بأن المهنة لن يكون لها مكان في المستقبل حتى أنه لم يفكر بأن يورثها لأبنائه مع أنه مازال يعمل بها وبحدود ضيقة جداً.