لكل السوريين

بأي ذنب ومن السبب.. أطفال سوريون على قارعة الطريق، أي مستقبل ينتظرهم؟

تحقيق/ عباس إدلبي

بصوتها المرتجف وعينيها الحزينتين كانت تطلب النجدة للنجاة من مصير مجهول تكتنفه العديد من السيناريوهات السيئة، التي ربما لن يكون أفضلها أن تُكتب لها الحياة لتقارع مستقبلًا مليئًا بالأشواك في مجتمع يُحاكم الضحية على ذنب لم تقترفه.

يروي صالح، أحد أهالي بلدة جرجناز بريف إدلب، الذي صادف مروره من المكان يوم 15 من حزيران الماضي، في شهادة أدلى بها لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، الظروف التي عثر فيها على الطفلة قائلًا: “بينما كنت في طريق عودتي إلى القرية برفقة طفلي وشقيقي، فوجئنا بحقيبة سفر سوداء مرمية عند مدخل القرية، شعرنا بداية بالخوف من هذه الحقيبة بسبب انتشار العبوات الناسفة، ولم نجرؤ على الاقتراب منها، فابتعدنا قليلًا إلا أن الفضول دفعنا للعودة، وعند اقترابنا من الحقيبة التي كانت نصف مفتوحة وتحريكها سمعنا بكاء مولود صغير، ففتحنا الحقيبة لنتفاجأ بوجود طفلة صغيرة تبلغ من العمر أسبوعًا تقريبًا.

أخبرت قسم الشرطة بعدها بالحادثة، حيث تم فتح ضبط ومن ثم أُجري فحص طبي للطفلة”.

أنقذت عائلة صالح الطفلة من موت محتم، لكن مصيرها المستقبلي يبقى غير واضح في ظل صعوبة تسجيلها بالدوائر الرسمية أو حصولها على أوراق ثبوتية.

تقول زوجة صالح، “قررنا كفالة الطفلة ونحاول رعايتها كأنها طفلتنا وربما أكثر، وقد أطلقنا عليها اسم هبة لأنها كانت بمثابة هبة من الله لعائلتنا، لكننا لم نستطع تسجيلها على خانتنا أو الحصول على أوراق رسمية لها، فالجميع على دراية بصعوبة التسجيل في الدوائر الحكومية، وما يقلقني حاليًا هو المصير الذي قد يواجه الطفلة في المستقبل، من المؤكد أنني سأواصل رعايتها حتى تكبر، لكنني سأخبرها بأن والديها قُتلا إثر قصف طال منزلهما، ولن أدعها تعرف شيئًا حول وضعها في حقيبة للسفر”.

حالات التخلي عن الأطفال حديثي الولادة زادت بشكل ملحوظ خلال سنوات الحرب وخاصة في الآونة الأخير بمناطق مختلفة من سوريا، وبعد أن كانت نادرة الحدوث، باتت المشاهد تتكرر حتى لم تعد أمرًا مستغربًا لدى كثيرين.

ورغم صعوبة تحديد حجم الظاهرة لغياب الإحصائيات الرسمية، يؤكد تكرار الحوادث استفحالها، وسط غياب مؤسسات مختصة بالتعامل مع هذه الحالات.

أصدرت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” تقريرًا وثقت فيه ما لا يقل عن 40 حالة لأطفال تخلى عنهم آباؤهم في محافظة إدلب وريف حلب الشمالي، محذرة من تفاقم الظاهرة، ومرجحة أن يكون العدد أكبر من ذلك بكثير، لا سيما في ظل وجود حالات بأماكن بعيدة كان من الصعب توثيقها من قبل باحثي المنظمة.

وبسبب تأخر العثور على بعض الأطفال وقساوة الظروف الطبيعية التي عُثر عليهم فيها، سجلت المنظمة وفاة 12 طفلًا رضيعًا كان قد تم رميهم في محافظة إدلب وحدها.

ووصف التقرير الظروف السيئة التي تم العثور على الرضع فيها، إذ كان بعضهم مُلقى على قارعة الطريق في أكياس مخصصة للقمامة أو ضمن حقائب مخصصة للسفر بينما لا يزال الحبل السري معلّقًا بهم.

وعزا التقرير الأسباب التي أسهمت في تزايد حالات التخلي عن الأطفال حديثي الولادة إلى الفقر الذي تعاني منه آلاف العائلات السورية خاصة في مخيمات النزوح، إلى جانب انتشار ظاهرة تزويج القاصرات من مقاتلين أجانب مجهولي الاسم والنسب خاصة في محافظة إدلب.

وحذر التقرير من التداعيات الخطيرة على مستقبل هؤلاء الأطفال الذين سيواجهون مصائر مجهولة، نتيجة عدم تمكنهم من الحصول على الجنسية أو حتى على أوراق ثبوتية، إلى جانب حرمانهم من حقهم في الحصول على التعليم، فضلًا عما قد يتعرضون له من استغلال، مثل إجبارهم على العمل قبل أن يصلوا إلى السن القانونية، أو تجنيدهم ضمن فصائل جهادية.

وتحدثت العديد من وسائل الإعلام مؤخرًا عن ازدياد حالات التخلي عن الأطفال حديثي الولادة في العاصمة دمشق وريفها، نتيجة تردي الأوضاع المعيشية.

وفي شهر آذار الماضي، تداولت وسائل إعلامية محلية نبأ ترك والد لرضيعته أمام بوابة مسجد “الثقفي” في حي القصاع بدمشق، ليعترف بعد إلقاء القبض عليه من قبل الشرطة أن ما دفعه لذلك هو سوء الأحوال المعيشية وعدم قدرته على تأمين الطعام والدواء لها.

المدير التنفيذي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، عزا ازدياد حالات التخلي عن الأطفال في سوريا عمومًا إلى عوامل عدة، وعبّر عن اتفاقه مع الرأي القائل بأن عامل الفقر يلعب دورًا في ذلك، واختلافه مع القائلين بأنه يشكل العامل الرئيسي.

ويرى الأحمد أن وراء انتشار الظاهرة عوامل رئيسية أخرى، منها الزواج من مقاتلين أجانب أو غير أجانب، فبعد تعرضهم للقتل أو فقدان أخبارهم، قد تضطر الزوجة تحت ضغط الأهل إلى التخلي عن الطفل أو الطفلة.

وأضاف الأحمد، في حديثه أن هؤلاء الأطفال قد يكونون نتاج علاقة “غير شرعية”، ومع ما تحمله هذه العلاقات من حساسية شديدة في المجتمعات السورية وتحديدًا المحافظة منها، فقد يؤدي الكشف عنها إلى عواقب كثيرة في أغلب الأحيان، قد تصل إلى قتل الأم لدواعي “الشرف”.

وعن الجهات التي تتحمل مسؤولية غياب مؤسسات تُعنى بشؤون هؤلاء الأطفال، أشار الأحمد إلى أن الجهات المسيطرة على كل بقعة سورية تتحمل المسؤوليات المباشرة، سواء كانت مؤسسات حكومة دمشق، أو “حكومة الإنقاذ” التابعة لـ “هيئة تحرير الشام”، أو “الحكومة المؤقتة” التابعة لـ “الائتلاف السوري” المعارض.

ولفت الأحمد إلى أنه لا توجد ضمانات حقيقية لمنع الانتهاكات الحالية أو المستقبلية بحق هؤلاء الأطفال، تحول دون تعرضهم لتجاوزات بحقهم من قبل الأسر التي تكفلهم أو المجتمع المحيط، مبيّنًا أنه يمكن لمنظمات المجتمع المدني بمساعدة من السلطات المحلية والقيادات المجتمعية إدارة حملات مهمة لرفع الوعي من أجل المساعدة في دمج هؤلاء الأطفال بالمجتمع.

الاختصاصي الاجتماعي السوري، اوروكاجينا، أرجع من جانبه ازدياد حالات التخلي عن الأطفال حديثي الولادة في عدة مناطق سورية إلى الثقافة الاجتماعية السائدة في منطقتنا، التي تحض الشباب ذكورًا وإناثًا على الزواج بسن صغيرة قبل وصولهم إلى حالة النضج الانفعالي والسلوكي والاجتماعي.

وفي حديثه، أشار الاختصاصي إلى أن التركيز في مجتمعنا يكون مع الأسف على مستوى النضج الجنسي وليس الجسدي، فالمتزوجات بسن صغيرة قد ينضجن جنسيًا لكنهنّ يكنّ في مرحلة النمو جسديًا، ومن الناحية النفسية لا تزال ملامح شخصيتهنّ تتبلور، وبالتالي فإن الأزواج الصغار غالبًا ما يكونون غير مؤهلين لهذه التجربة، التي ينتج عنها مبكرًا أيضًا إنجاب الأطفال.

وتابع، يُضاف إلى ذلك وجود حالة عامة من الاحتياج المادي، فضلًا عن الوضع الأمني المتردي الذي قد ينجم عنه فقد أحد الوالدين، وغالبًا ما يكون الأب، فتجد الأم الصغيرة نفسها بمواجهة واقع هو بمثابة جحيم لا يمكن التصدي له بمفردها.

ومع غياب الوعي، أو البحث عن فرصة زواج جديدة، وترافق ذلك مع عوامل أخرى أحيانًا كالتشرد والفقر والتعب، أو الاضطرابات النفسية التي ترافق مثل هذا النوع من العلاقات يتم التخلي عن الطفل الذي يُعتبر حملًا وعائقًا أمام الحياة الجديدة.

وقد يُطبق هذا السيناريو في ثلاثة احتمالات عندما يتم فقدان أحد الوالدين، أو لدى انفصال الوالدين عن بعضهما، أو في حال بقائهما معًا لكن مع وجود واقع اجتماعي لا يمكنهما مجابهته.

وبيّن الاختصاصي أن الثقافة الاجتماعية التي تدعم الزواج المبكر في ظل غياب مقومات الاستمرار والتماسك الاجتماعي، تودي بالأطفال في النهاية إلى الشارع أو الميتم.

وبما أن التبني غير مقونن في بلادنا، يمكن تعويض ذلك بالكفالات، التي تعد أمرًا محببًا من الناحية الاجتماعية، لأن الكفالة بمعنى إيجاد أسرة بديلة للطفل تعوضه عن الأسرة المفقودة، وتؤمّن له تلقي الرعاية المطلوبة، كما أنها تضمن للأسرة الكافلة تربية الطفل بشكل مباشر، والإشراف على الأموال التي يتم صرفها عليه.

وعن آثار نشأة البعض من هؤلاء الأطفال في المياتم، أوضح اوروكاجينا أن تكوين المجتمع البشري عمومًا يتضمن وجود أدوار اجتماعية مرتبطة بوظائف معينة، ويؤثر غياب أحد هذه الأدوار حتى في ظل استكمال باقي الوظائف بدرجات متفاوتة على الأطفال، وهو ما ينطبق على الحالات التي تحاول فيها الأم أن تعوض عن غياب الأب، وكذلك على تربية الأطفال في دور الأيتام.

ولفت إلى أنه في حين تنجح بعض دور الأيتام الخاصة في احتضان هؤلاء الأطفال، لكن القطاعات العامة أفرزت انعكاسات سلبية عليهم تم لمسها والتحقق منها.

إذ تشير معظم الدراسات إلى أن غالبية الأطفال الذين تكفلهم دور الأيتام التي تتبع لمنظمات كبيرة، أو لقطاع حكومي، لا يتمكنون من استكمال تعليمهم، كما يكون تعرض هؤلاء الأطفال للانحراف أمرًا واردًا جدًا، إلى جانب التسرب والتشرد.

لكن وفي الوقت نفسه توجد فئة من هؤلاء الأطفال تتمكن من تحقيق النجاح في الحياة المهنية، وقلة قليلة تبرع في مجالات علمية أو فنية أو رياضية، بحسب تعبيره.