لكل السوريين

التوق إلى الماضي كظاهرة حداثية

محمد عزو

ظهرت آراء عديدة تعتبر الشوق (النوستالجيا) ظاهرة حداثية، مثلما أشار الباحث “بيتر فريزتشي” الذي يرى أن (النوستالجيا) قد ظهرت خلال القرن التاسع عشر ميلادي مع عمليات التحديث، وتعمد الحداثة القطيعة مع الماضي، ورؤية التاريخ باعتباره عملية تجدد مستمر متسارعة، فكل لحظة تاريخية تأتي بتغييرات جديدة ما يلبث الإنسان أن يدركها ويحاول استيعابها حتى تلاحقه تغييرات أخرى أحدث، كما يحدث في أيامنا هذه، يقف على إثرها عاجزًا عن إدراكها، فالإنسان في زمن الحداثة كمن يقف ثابتًا في مكان سريع التبدل والتغير، فيعجز عن تعريف هويته، لذا يرى  أن النوستالجيا (التوق أو الشوق أو الحنين) في العصر الحديث تعبير عن هذا التيه والشعور بالانقطاع والرغبة في التواصل والامتداد مع الماضي وعدم استيعاب التجديد المستمر.

هذه الرؤية تنظر إلى (النوستالجيا) باعتبارها محاولة للاتساق مع الذاكرة، فعندما تنعدم كل السبل تبقى الذاكرة هي الوسيلة الوحيدة للتعامل مع واقع مهترئ ومتشظٍّ، وتُضحي الذاكرة وسيلة رأب صدع النفس المثقلة بالحنين، التي ترزح تحت ثقل الفقد، الذات المغتربة عن لحظتها الحاضرة، التائهة في عالم لا تعرف طرقاته، الساعية إلى استرداد العالم الذي تعرفه وتتقن مفرداته.

لكن، ينبغي الحذر في التعامل مع الماضي وما تطرحه الذاكرة من إشكاليات، فعلينا أن لا نمجد الماضي في كل شيئ، فالذاكرة انتقائية؛ قد تستدعي حدث وتضخمه وتنفي حدثا آخر، وهو ما أشار إليه “تودوروف!” في كتابه “إساءات استعمال الذاكرة” الذي شن فيه هجومًا على الهوس المعاصر بإقامة الاحتفالات لذكرى معينة، وما يستتبع ذلك من مواكب وطقوس وأساطير تقتطع أحداث معينة من سياقاتها دون النفع المرجو منها في فهم الحاضر، كما يرى “تودوروف” أن وضع اليد على الذاكرة ليس من اختصاص الأنظمة السلطوية، وإنما الطامحين للتغيير، فإذا كانت الصدمة تحيلنا إلى الماضي فإن الرغبة في الحياة القيمية المثالية توجهنا نحو المستقبل.

ثمة أمر آخر، وهو أن حالات (النوستالجيا) في العقود القادمة مهددة بالتشظي أكثر، لأن العصر الحديث -كما وضحنا سابقا- قائم على السرعة والتجدد المستمر، وتزداد فيه حالة الفردانية والاختلافات النوعية والطبقية والاجتماعية في المنطقة الواحدة، وهو ما يجعل من وجود ذاكرة جمعية واحدة أو مشترك في ذكريات البشر أمرا شديد الصعوبة.

فالحداثة بقطيعتها المتواصلة مع الماضي يجعلها تتعمد تفريغ ذاكرة الإنسان من الماضي، فيصعب وجود مشترك على مستوى الذاكرة الجمعية يمكن البناء عليه. يًضاف لذلك، أنه وفي العصر الحالي، تزداد معدلات الهجرة في مشرقنا المتوسطي.

وفي ظل تأزم الواقع الشرق اوسطي، والتطور التقني الذي يجعل الهاتف والحاسوب هو الموثق الرئيسي لأحداثنا اليومية وحياتنا المعيشية وما صاحب ذلك من تغير معنى المكان، حيث لم يعد المكان هو الزواية الآمنة أو ركن اللعب في منزل الطفولة، لكنه أصبح المكان الأكثر سيولة.

فمن خلال الشبكة العنكبوتية تستطيع أن تجوب أنحاء العالم وتتواصل معه في لحظة واحدة، ويجعل خيارات الأفراد متعددة وشديدة الاختلاف مما يهدد وجود ذاكرة جماعية تخلق حالة من (النوستالجيا) تشير في أسوأ أحوال الحاضر إلى مشترك جمعي، فهل نحن في سبيلنا للحنين إلى وجود (النوستالجيا) في ذاتها؟ هذا يؤكد على أن فهم النوستالجيا وأسباب ظهورها لا ينفك عن فهم المكان وطبيعته، وعن الحاضر وإشكالياته، وعن علاقة الذات وإدراكها للعالم الخارجي، وقدرتها على تسكين نفسها في هذا العالم، فحينما تتعقد علاقة الذات، سواء الفردية أو الذات الجماعية، مع المكان باعتباره الموطن والسكن، وتشعر بثقل الواقع عليها وصعوبة الشعور بالاستيعاب في الحاضر، تجعل الماضي هو المهرب الأول. ولكننا نحتاج إلى علاقة عقلانية مع الماضي لا تستدعيه بشكل انتقائي وبسردية متوهمة.

اقتباس بتصرف