لكل السوريين

“العجة الحلبية” من أشهر المأكولات الشتوية.. كيف حافظ عليه أهالي حلب؟!

حلب/ خالد الحسين

تشتهر النساء الحلبيات منذ عقود قديمة بتقديم أكلة العجة الحلبية كوجبة رئيسية على المائدة، لما لها من خاصية ونكهة في مذاقها وفوائدها الصحية، حيث تتميز تلك الأكلة الشعبية بسهولة تأمين مكوناتها البسيطة وطريقة إعدادها وتحضيرها وجاذبيتها وتناولها وهي طازجة، ويقال إنه في السابق مثلما كان في كل حي من أحياء “حلب” حلونجي وفوال وفران، كذلك كان يوجد محل مختص لبيع العجة، وله زبائنه الخاصون به، وبالمقابل تحرص الكثير من ربات المنازل على إعدادها وتقديمها لعائلتها كوجبة طعام رئيسية.

بداية قصتنا كانت من منتصف “شارع اسكندرون” بـ “حي الجميلية”، إذ لا يزال “أبو تركي مدلول” 60 عاماً، يقف خلف مقلاة العجة من ٣٠ عاماً مضت.

العجة أكلة شعبية محببة لدى الكثيرين وتجذب العمال برائحتها، ونقدمها إما على شكل وجبات سريعة مع المخللات والفليفلة وإما على شكل “سندويشات” للمستعجلين

يقول “مدلول”: «تعد أكلة العجة من الأطعمة المفضلة لدى أبناء “حلب”، ونادراً ما يمر شخص من أمام بائع العجة من دون أن يطلب وجبة منها، وتقدم له على الطاولة أو على شكل “سندويشة” ملفوفة.. ورثت المهنة عن والدي وجدي، وتعمل عائلتي بها منذ أكثر من مئة عام، وكان عند والدي خلال حقبة السبعينيات محل في “حي القصيلة” تحت القلعة يصنع بها العجة ويقدمها للزبائن، وعندما كنت صغيراً كان يحضرني معه للمحل باكراً، و يكلفني بتقشير الثوم والبصل وفرم البقدونس وتقطيع البندورة، كان لدى والدي مهارة وسرعة بحركة يديه وبطريقة كسر البيض بيد واحدة على حرف طاسة العجة، والملعقة بيده الأخرى لخفق المحتويات مع البقدونس والبهارات، وفي بعض الأحيان كنت أستغل فترة ذهابه لصلاة الظهر بالجامع القريب لأقوم بالنيابة عنه بطهي العجة على النار، ورغم ذلك لم أصل لمهارته».

تتألف أكلة العجة من عدة مواد أساسية هي (البيض والبقدونس والثوم والبصل والفلفل والقليل من ملح الليمون والبهارات)، وخلط كل هذه المكونات يحتاج لمقادير محددة ومحسوبة أصولاً، مثلاً إعداد بيضة واحدة ينتج ثلاثة أقراص من العجة ويتطلب ملعقتي بقدونس ورأس ثوم مدقوق وملعقة بصل مفروم ورشة بهارات مع ملح قليل، وخفق كل هذه المكونات ببعض وصبها في مقلاة الزيت الحامي، وتقليبها بسيخ القلي لمدة دقيقتين حتى تنضج.

ويضيف “أبو تركي”: «منذ خمسين عاماً وأنا أعمل بهذه المهنة والوقوف خلف مقلاة العجة، وتنقلت من محل والدي بـ”السقطية” إلى “السبع بحرات”، وخلال الأزمة انتقلت إلى جانب “جامع الصديق”، وبعدها إلى محلي هذا، أحب مهنتي ولا أتصور نفسي من دونها، واليوم الذي لا أفتح به لسبب ما كعارض صحي، يتصل بي الكثير من الزبائن للاستفسار عن سبب غيابي، كما أنني حفظت كل أسرار المهنة، وفي كل يوم أستيقظ باكراً في السادسة وأفتح محلي وأبدأ بتجهيز توابلها وأسخن الزيت، لتقديمها طازجة للزبائن، ونقدم معها إما كأساً من اللبن وإما سلطة الخيار والمخللات والفليفلة الخضراء مع النعناع».

اوعن سبب تفضيل الكثيرين من الزبائن أكلة العجة في المحل بدل تلك المصنعة في المنزل يقول “أبو تركي”: «هناك عدة أسباب أولها الخبرة المتوارثة بدقة المقادير، وطريقة طهيها الصحية، والتبديل المستمر للزيت الصحي المكفول في كل وجبة نتيجة

الاستهلاك الكثير، وثانياً تقدم في المحلات للزبائن وهي طازجة، والغالبية من زبائننا هم من العمال والسائقين وعمال المحال والأسواق، حيث لا تتاح لهم فرصة العودة لمنازلهم لتناول طعام الغداء، وبعضهم يطلبها على شكل وجبات لتناولها في محله مع عماله، وهناك زبائن يحضرون قطعة لحمة ويطلبون مزجها وخلطها بالبيض والبقدونس وقليها ضمن محتويات أكلة العجة».

ولا تقل مهارة ربات المنازل الحلبيات في شطارتهن ومذاقهن عن مهارة معلمي الأسواق في إعداد طبخة العجة.

وتقول الحاجة “أم محمد”: «العجة أكلة شتوية قديمة ومفضلة لدى الكثير من العائلات الحلبية، وهي من الأطعمة الصحية والنظيفة، ونحرص على إعدادها بعناية خاصة، ونقوم بطبخها مرة في كل شهر، وتمتاز بسهولة وسرعة تحضيرها وإعدادها في المنزل، ولها نكهتها عندما نقليها بالزيت الحلو، لكن يسبقنا أصحاب المحلات بشيء واحد فقط أنهم يقدمونها لزبائنهم وهي طازجة وساخنة، بينما نحن قد نقدمها في منازلنا مائلة للبرودة وهذا يتوقف على موعد حضور جميع أفراد العائلة على وجبة الغذاء أو العشاء، ما يفقدها بعضاً رائحتها الزكية».

وانتقلت الصحيفة إلى بائع العجة في “سوق باب جنين” المعلم “محمد رجب” الذي يقول: «قبل الأزمة، وفي محلنا هذا كنا نقدم الوجبات الشعبية المتنوعة للزبائن من (فلافل وفتة وبيض مسلوق وعجة وكبة)، وكان لدينا كادر من العمال يلبي كل الطلبات، وطوال فترة الأزمة أقفلنا محلنا، ولكن مع عودة الحياة من جديد لهذا السوق، ونتيجة نقص اليد العاملة اقتصر عملنا بعد العودة على طهي العجة فقط، وأغلب زبائننا من جوارنا أصحاب المحال، ومن عمال “باب أنطاكية” والسائقين وبائعي الخضار والألبسة في السوق، وهم يثقون بنا كثيراً، ويطلبون طعام العجة، ونحرص على تعقيم الخيار والبقدونس ونقعه بالأملاح قبل خلطه مع البيض».

ويضيف: «العجة أكلة شعبية محببة لدى الكثيرين وتجذب العمال برائحتها، ونقدمها إما على شكل وجبات سريعة مع المخللات والفليفلة وإما على شكل “سندويشات” للمستعجلين».

وختام الصحيفة عن طعام العجة كان مع صانع العجة “محمود عمران” في الحي الثالث بـ”حي الحمدانية” الذي يقول :«حفظت طريقة إعداد ومكونات طهي العجة من والدتي، وكانت ماهرة جداً، وتجيد وضع المقادير بالفطرة من توابل وبهارات وبصل وثوم وبيض، وتقوم بنقع البقدونس ثم فرمه ناعماً وبسكين حادة، ومن شدة براعتها بالعجة كانت بعض نسوة الحي يمازحنها ويطلبن منها عزيمتهن على وجبة الغداء، وكنت أجلس بجانب أمي وأراقبها وهي تحمي الزيت وتقلي العجة وتقلب الأقراص بالسيخ، وتسحب الطازجة إلى صحن بجانبه وأرغفة الخبز من تحته وفوقه، ومع انتهاء طبختها، تقوم برش الفليفلة الحمراء على الأقراص، وتقدم الطعام مع أكواب اللبن وبعض الخضار والنعناع».