لكل السوريين

مهزلة التحكيم الكروي في سوريا

مرةً أخرى، وكما هي العادة في كل موسم، تثار قضية التحكيم كإحدى القضايا الهامّة التي تُؤثر في حركتنا الرياضية.. فمشاكله لا تنتهي لأن “إرضاء النفس غاية لا تدرك”، وإذا كنا ندرك هذه القاعدة أو الحكمة فهذا لا يعني أننا نسلّم أنَّ التحكيم عندنا يعيش في قمّة مجده، أو أنه لا يعاني من أية مشاكل، بالتأكيد لا، فهو يعيش في أزمة ومهزلة حقيقية طالما عانى منها الحكام فضلاً عن جماهير الكرة في سوريا.

والذين يطرحون مشكلة التحكيم، وبصورة خاصة في هذه الأيام، ويتركونها عائمة دون ذكر للمخرج منها إنما يزيدون المشكلة تعقيداً، وحتى نتلمس أبعاد هذه المشكلة من جميع جوانبها يجب أن نشير إلى أهم المشاكل التي يعاني منها التحكيم لدينا، وهي ثلاث مشكلات رئيسة، أهمها:

ـــ الثقة.

ـــ اللياقة.

ـــ التفاوت في المستوى.

وهذه المشكلات الثلاث كلّها تندرج تحت مسمّى واحد، وهو إعداد الحكم من كافة النواحي، ولقد رأيت فصلها حتى يُمكن مناقشة كل منها على حدة وبدقة أكثر.

* الثقة: ليس معنى إعطاء الثقة للحكم الزجّ به في مباريات قوية وحسّاسة كما حصل في بعض مباريات دوري التصنيف في الأعوام الماضية، لأننا بهذه الطريقة إنما نستخدم الحد الآخر من الثقة، فالحكم الذي يقوّم مباريات دوري أندية الدرجة الثانية أو الثالثة ليس كاللاعب الناشئ، فهذا الآخر عندما يُزجّ به في أية مباراة فإن بجانبه عشرة لاعبين أكثر منه خبرةً ويشاركونه تحمّل المسؤولية، أما الحكم فهو المسؤول الأول والأخير، وإذا كان له عينان فهناك آلاف تراقبه، وهناك الجمهور الذي لا يرحم، والإداري الذي يبحث عن الفوز بأية طريقة كانت!!

والحكم مطلوب منه أن يدير اثنين وعشرين لاعباً كل واحد منهم له نفسية تختلف عن الآخر، ومطلوب من الحكم أيضاً أن يرضي عشرات الألوف من الجماهير وقبل أن يرضي الإداريين القابعين وراء خط التماس والذين لهم تفسيراتهم الخاصة في ترجمة قرارات الحكام، أقصد من هنا الثقة المعنية هي أن نثق في الحكم كقدرة وطنية نذرت نفسها لعمل كهذا.. لا يحاسبها عليه إلاّ الضمير بعد الله هذا أولاً، وثانياً أن يثق الحكم بنفسه عند إدارته دون أية مؤثرات خارجية، بحيث ينحصر تفكير الحكم في الاثنين والعشرين لاعباً الذين حوله، وأن لا ينتقل بتفكيره إلى ما وراء خطوط التماس، والى ما بعد المباراة، مباريات دوري الدرجة الأولى، وإذا أدركنا هذا الزجّ بحكم درجة ثالثة أو ثانية في مباريات دوري الدرجة الأولى وخاصة في المباريات المصيرية إنما يعني هذا وأد مشواره، ويعني أيضاً ضياع حقوق الأندية التي لا ذنب لها، وهذا ما حدث في بعض مباريات دوري التصنيف.

* اللياقة: كلنا يعرف بأن اللياقة هي من أهم مميزات الحكم الناجح. فالحكم يجب أن يكون لائقاً طبياً وفنياً للمباراة ولا داعي للتوسع في هذا الموضوع فقد نوقش أكثر من مرة، وبأكثر من كلمة وهو لا يحتاج إلى تعليق.. فوضع الحكام في المباريات كفيل بالكشف عن هذه النقطة ويكفي الإشارة إلى الدورة التي تضمنتها لجنة الحكام الرئيسية قبل بدء مباريات الدوري، وما ظهر في بعض المباريات من مستويات لياقة لبعض أو معظم الحكام.

*التفاوت في المستوى: ليس المقصود بهذا التفاوت في الدرجات فنحن نملك حكاماً من كافة الدرجات، ابتداءً بالمستجدّين أقل درجة، وانتهاءً بحاملي الشارة الدولية، وهي أعلى درجة في التحكيم، ولكن المقصود أن هؤلاء الحكّام حتى الذين تجمعهم درجة واحدة يوجد تفاوت شاسع في المستوى بينهم.

لقد كنا في السابق نملك عشرة حكام دوليين كانوا يحملون الشارة الدولية وكان مستواهم التحكيمي ممتازاً للغاية، بل كانوا في مستوى متقارب ورائع في الأداء والعطاء اللياقي والفني!! وكنا نملك صفاً آخر بعدهم مؤهلاً لأن يحتل محلهم..!!

أما الآن، فإننا نملك عدداً لا بأس به من الحكّام الدوليين مستواهم ممتاز، والسؤال الآن لماذا هذا التفاوت في المستوى رغم أننا نملك عدداً من الحكام الدوليين وعدداً كبيراً من حكام الدرجة الأولى وما دونهما، ونقول أين السابقون، ولماذا ابتعدوا عن مجال التحكيم؟ ولماذا يتهرّب بعض الحكام من إدارة المباريات الحسّاسة وخصوصاً الحكام الدوليون؟.

وفي هذا الإطار نذكر أن الحكم الدولي في سوريا يتقاضى أجور تحكيم عن المباراة في الدوري 40000 ألف ليرة سورية، أي ما يوازي 12 دولار فقط! ومنها سيدفع نفقات السفر والإطعام، وقد يضطر للسفر قبل يوم، وكذلك سيضطر للإقامة ليوم جديد في حال المباراة كانت في حلب، حيث الطريق يحتاج لعشرة ساعات سفر، ومن هذا المبلغ يتم حسم الضريبة.

وهل تعلم بأن أجر الحكم قبل الأزمة كان مع إذن السفر 7500 ليرة سورية أي ما يعادل آنذاك (150 دولاراً)، ومع التضخم في البلاد، وانخفاض قيمة الليرة السورية تراجع الأجر كثيراً مقابل الدولار، والمطلوب من اتحاد الكرة المحافظة على هيبة وكرامة ومعيشة حكامه بزيادة رفع أجور التحكيم بدلاً من اضطرارهم إلى تلقي الهدايا المبطنة أو الرشاوي؟!.

إنَّ قصص الفساد تظهر أن الحكم هو الحلقة الأضعف في منظومة كرة القدم السورية، فالحكام معرضون للابتزاز والتهديد والشتائم من الجمهور والهجوم من الصحف الرياضية، في حين لا تتجاوز أجورهم أقل من 12 دولاراً، في الفترة الحالية اليوم، بحسب قرار اتحاد كرة القدم رقم 727 تاريخ 9/6/2020 .

ويفتح الواقع الحالي للحكام التساؤل حول من الجهة المسؤولة والقادرة على حمايتهم من التهديدات، مع غياب أي تأمين صحي أو اجتماعي ضد الحوادث، وغياب الحماية من قبل اتحاد الكرة.

عبر سنوات طويلة، شهدت كرة القدم السورية عشرات من قصص الفساد، منها ما بقي مخفياً وبعضها وصل إلى الإعلام، بما يشمل التهديد والابتزاز والضرب وتلقي الرشى، دون أي تحرك حقيقي لحل هذا الملف الذي يؤثر بشكل مباشر على الرياضة الأكثر شعبية، التي لم يحقق منتخبها أي إنجاز يذكر منذ عقود طويلة.

الحكم في الدرجة الأولى بالدوري السوري محمد الغادري، روى شهادته في مباراة جمعت بين ناديي القرداحة وشباب الرّقة في دوري الدرجة الثانية، وكان فيها حكماً مساعداً، وحينها تلقى فريق التحكيم تهديداً مباشراً من قبل رئيس نادي القرداحة، محمد خير بيك.

نزل خير بيك إلى غرفة تبديل الملابس، وتحدث بصوت عالٍ مع حكم الساحة، وطلب منه ركلة جزاء لمصلحة فريقه، ثم توجه للطاقم المساعد طالباً بنبرة من التهديد ألا يرى راية التسلل مرفوعة.

لم يستجب طاقم التحكيم يومها لطلبات خير بيك، وختم الغادري قصته بالقول: “خرجنا من المباراة بأقل الخسائر الممكنة!” (دون عقوبات أو اعتداء أو فصل سببه تقارير كيدية).

خرج الغادري وزملاؤه بأقل الخسائر في عام 2007، لكن حظ الحكم ياسر الحسين لم يكن مماثلاً في عام 2009، وهو العام الذي شهد فضيحة تحكيمية من العيار الثقيل.

وقال أمين سرّ اتحاد كرة القدم الأسبق، نادر الأطرش، إنَّ الحسين تعرض للضرب في غرفة الملابس بعد نهاية مباراة الوثبة وجبلة، إذ كان الأخير بحاجة للفوز للبقاء في دوري الدرجة الأولى، وهي القضية التي تدخّل فيها عدد من السماسرة.

ومارست الأجهزة الأمنية والحزبية السورية على سلك التحكيم منذ عدة عقود سلطتها، فلا بأس من إشارات لروايات سريعة عن مباريات فُصّلت نتائجها على مقاس بعض الفرق، كما حدث في مطلع التسعينيات بمباراة فريقي جبلة والحرية، التي مدد وقتها الإضافي الحكم الرئيس، واقتربت الشمس من الغياب الكامل ولا أضواء في الملعب، حتى استطاع فريق جبلة الحصول على هدف التعادل (لم يكن بإمكان طاقم التحكيم إلا التنفيذ.

والتعايش مع المطلوب، وإلا لن تخرج سالماً من ملعب البعث في جبلة)

وفي أحد المواسم تعرض الحكم الدولي جمال الشريف لإهانة داخل الملعب من فواز الأسد شخصياً (ابن عم رئيس النظام السوري، بشار الأسد، المعروف بأنه كبير محبي نادي تشرين)، مع توجيه اتهامات للشريف بأنه “مشبوه سياسياً” وسيقوم بتربيته قريباً.

بقي أن نشير إلى أننا نوجه نداءنا إلى أسياد القانون بأن يحكموا وفق ما تمليه عليهم ضمائرهم لأنهم بهذا يعطون كل ذي حق حقه، وفي هذا بالتأكيد نكون قد أنصفنا اللاعبون والاداريون الذين يبحثون عن النتيجة سواء أكانت إيجابية أم سلبية، فضلاً عن تحقيق النتيجة التي ترضي الجماهير التي تتابع وبشغف حقيقي دوري الكرة على الرغم من كل الظروف التي أصابتها، أضف إلى إرضاء الضمير، قبل كل شيء.

 

عبد الكريم البليخ