لكل السوريين

القيم الإنسانية… المصالح الدولية….الإرتزاق

أول مجتمع بشري تأسس في ميزوبوتاميا كان بسبب حاجة الإنسان إلى التعاون في مجالات تهم الجميع مثل الحماية وتلبية الحاجيات الضرورية والحاجة إلى الاستقرار، بحيث يشعر كل فرد أنه محمي وحاجياته الحياتية مضمونة ولا يشعر بالغدر من جيرانه وأفراد المجموعة التي ينتمي إليها. وهكذا نشأت مجموعة من القيم الإنسانية التي تعامل بها أفراد تلك المجموعات، مثل الصدق والإخلاص في العمل والروح الجماعية، وإحترام المسنين للإستفادة من الخبرة والعطف على الصغار لأنهم يمثلون مستقبل المجتمع وإحترام المرأة ومنحها القدسية كونها مصدر إستمرارية الحياة وما إلى ذلك من قيم أخلاقية تحافظ على سلامة المجتمع وتكاتفه، إنطلاقاً من أن مصير الفرد مرتبط بمصير المجتمع الذي ينتمي إليه.

مع نشوء إحتكار السلطة والثروة من جانب الرجل حدث الخلل الأكبر في المجتمع، حيث فقد المجتمع الطبيعي توازنه، وباتت مصالح الإحتكار هي الأولوية لدى بعض الأفراد، وبات يرى منفعته ومصالحه مع الإحتكارات، ونظراً لأن الإحتكار يعني خروجاً عن المعايير والقيم السائدة في المجتمع تم اللجوء إلى الأساليب والسبل الملتوية لإقناع الأفراد بشرعيتها إلى أن تم الوصول إلى تكوين الدولة على شكل دولة المدينة لتتوسع بعد إضفاء صبغة القدسية عليها إلى دول أكبر ثم إمبراطوريات.

الإحتكارات بدأت بتنظيم المجتمعات حسب مصالحها فأسست الدواوين والدوائر والولايات ثم المديريات وما إلى ذلك بحيث وضعت المجتمع برمته تحت رحمة إحتكار السلطة والثروة التي باتت الدولة تمثلها. ونظراً للقدسية التي تم إضفاؤها على الدولة كنظام بات الفرد يعتقد أن وجوده وبقاؤه مرتبط بوجود الدولة، وهكذا تم إنشاء الجيوش والقوات المختلفة التي تهتم بحماية الدولة من أعدائها، بينما الحقيقة هي حماية الإحتكار الذي يتحكم برقاب المجتمع من إحتكار آخر يتحكم برقاب مجتمع آخر !!!! وشهدت المجتمعات حروباً لا نهاية لها دفاعاً عن تلك الإحتكارات، أي أن الحروب كانت بين الإحتكارات بينما الشعوب هي التي كانت تدفع الثمن.

مع تطور العلوم والتكنولوجيا وإزدياد الوعي لدى المجتمعات أدركت الشعوب بأن هذه الحروب ليست في خدمتها، بل هي في خدمة إحتكارات السلطة والثروة، ولهذا بدأت تتردد في الإنضمام إلى الجيوش والقوات المحاربة، والرأي العام العالمي بدأ يعترض على الكثير من الحروب التي تستنزف خيراتها، فما كان من الأطراف التي تتحارب إلا أن تلجأ إلى الإغراءات المادية للحصول على القوات التي تحارب من أجلها. بينما المجتمعات الواعية التي لا تخضع بالكامل للإختكارات باتت تنظم حماية ذاتها حسب مبادئ وقوانين “الدفاع المشروع عن الذات”.

مفهوم الإرتزاق من الحروب والمرتزقة هي نتيجة للأوضاع التي شرحناها، فالقوى الإستعمارية بشكل عام اعتمدت على المرتزقة في حروبها، فهي تركت شعوب المستعمرات جائعة ثم إستغلت الجوع لتجنيد شبابها وطاقاتها لتخدم إحتكاراتها وتقمع كل من يعترض علي مصالح الإحتكارات. مثلما نشأ طبقة تجار الحروب ومرتزقتها.

لاشك أن من يستخدم المرتزقة يريدهم أن يكونوا مخلصين لمصدر رزقهم، وأن يجيدوا المهام التي يكلفون بها، ومع تقدم العلوم تطورت وسائل تجنيد المرتزقة أيضاً، حيث يتم تجنيد البشر تحت مسميات وشعارات براقة تلهب العواطف والمشاعر، وبات كثير من المرتزقة لا يعرفوق حقيقة إرتزاقهم، وربما يدركون ذلك بعد فوات الأوان. مثلما نشأت شركات دولية لتجنيد المرتزقة مثل “بلاك ووتر” الأميريكية و”فاغنر” الروسية و”سادات” التركية.

وطننا السوري الذي يشهد حرباً عالمية ثالثة منذ أكثر من عشر سنوات بات نموذجاً وإختاباراً لكل هذه النماذج من الإرتزاق والمرتزقة. وكل قوة موجودة على الساحة السورية لجأت إلى تجنيد المرتزقة سواء بشكل مباشر أو على شكل فصائل تابعة لقيادات قادرة على تجنيد أعداد كبيرة من الأشخاص تحت شعارات دينية أو وطنية براقة تدغدغ مشاعر الجماهير. بعد أن ضاقت ظروف المعيشة وبات المواطن السوري يبحث عن لقمة الخبز بدلاً من كرامة الوطن والحرية والديموقراطية. فبات أبناء سوريا الذين رفعوا شعار الحرية والديموقراطية يحاربون في ليبيا وأزربيجان دفاعاً عن المصالح التركية الإستعمارية.

عندما خرجت بعض فصائل المرتزقة عن الخطوط المرسومة لها وتحولت إلى إرهابية تشكل خطراً على مصالح قوى الهيمنة تم إنشاء “التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب”، حيث حاول التحالف إستخدام بعض تلك الفصائل في مهمة محاربة الإرهاب ولكن وجد أن تلك الفصائل مرتبطة بقوى إقليمية تنفذ أجندتها الخاصة بها، وتركيا تأتي في مقدمة تلك القوى الإقليمية، وهي التي أسست أو ساهمت في تأسيسها خدمة لمآربها، فما كان من التحالف سوى اللجوء إلى القوى التي تحارب الإرهاب دفاعاً عن نفسها وفي إطار الدفاع المشروع عن الذات. ولهذا حصلت على النتائج التي نراها على الأرض ونشهدها. ولهذا بدأ التحالف بالتخلي عن القوى السياسية التي مثلت تلك الفصائل، ولم يبق أمامه سوى الإعتراف السياسي بالممثلين السياسيين لقوى الدفاع المشروع عن الذات.