لكل السوريين

الهوية الوطنية “القلقة”

شورش درويش

خلال الأشهر القليلة الماضية بدأ الحديث عن الهوية الوطنية السورية يأخذ منحى مختلفاً عمّا كان في السنوات العشر الماضيّة، حين آثر مثقّفون وكتّاب وباحثون سوريون أثناء الحديث عن موضوعات من قبيل الهوية الوطنية والمواطنة المرجوّة والديمقراطية والدستور، إرجاءها إلى مرحلة لاحقة، لتصبح العديد من الموضوعات الفكرية والقانونية أسيرة التأجيل حيث وضعت في خانة موضوعات “اليوم التالي” لسقوط النظام!

ولم يكن للكيان السوريّ المتشكّل في أعقاب الحرب العالمية الأولى هويّة وطنيّة محدّدة، ذلك أن هذا الكيان الجنينيّ لم يكن معطىً تاريخياً وجغرافياً ثابتاً، إنّما خُط بأقلام الرصاص فوق الخرائط التي رسمتها القوى الاستعماريّة، فالكيان الذي بدأ ملكيّاً وحظي بدستور وضعه “المؤتمر السوري العام” عبر لجنة صياغة الدستور 1920 بات بعد مدّة وجيزة بلداً مستعمراً تتناهبه المشاريع الاستعمارية بين أن يبقى خاضعاً للسلطات الفرنسية أو للبريطانيّة الجارة في العراق وشرقي الأردن وفلسطين.

وفيما كان الإنكليز يدعمون تشكيل (سوريا الكبرى)، كانت النخب السياسيّة السورية تخوض وفقاً لحساباتها صراعات تجلّت بالخلاف بين قطبي الحركة الوطنية آنذاك، شكري القوتلي الطامح إلى علاقات مع السعودية والكاره للهاشميين وبين جميل مردم بك الذي كان يفضّل الهاشميّ عبدالله بن الحسين ملكاً على الاتحاد السوري العراقي وشرق الأردن، بل إن مردم بك وصف في رسالة الرئيس القوتلي على أنه “مخلوق استعماريّ”، وعلى هذا النحو تصرّفت النخب السياسية السورية ونظرت إلى الوطن السوريّ باعتباره كياناً مؤقّتاً، لا وطناً منجزاً ونهائياً، وإذا كنّا في سياق التوكيد على هذه النقطة يمكن إحالة فكرة الوطن المؤقت إلى زمن آخر حين سلّم سوريون في زمنٍ آخر الجمهوريّة إلى مصر الناصريّة لتغدو سوريا إقليماً شماليّاً، لتعود من تجربتها الوحدويّة المريرة جمهوريّة “عربيّة”.

ومنذ بدايات تشكّل سوريا مثّلت مسألة الوحدة العربيّة الفضاء الأوسع الذي طمحت إليه النخب السياسيّة التي وجدت في الوحدة هويّة متخيّلة لا تكتمل صورة سوريا إلّا من خلالها، إلّا أن أكثر المشاريع التي وجدت في الوحدة شعارها وغايتها بل هويتها كان مشروع البعث الذي استلهم نموذجي الوحدتين الألمانيّة والإيطاليّة دون أن يخطو بشكل جدّي في هذا المجال، ولعل المشاريع التي طرحها للوحدة مع العراق البعثي ومع مصر السادات وليبيا القذافي تشرح صورة الهويّة القلقة وغير المستقرّة التي بقيت تعيش في أذهان الطبقات الحاكمة، التي حوّلت سوريا من وطن إلى قُطر، ومن معطى سياسي وقانونيّ إلى كيان مؤقّت ينتظر قطار الوحدة ليضع قاطرته على سكّتها.

وبالعودة إلى الدستور الفيصلي (الملكيّ) الذي يوصف على نحو ما بأنّه الدستور “الأكثر علمانيّة” بين مختلف الدساتير السورية اللاحقة، فإنّه كان قد ابتعد عن أيّ تحديد أو تعيين لوظيفة أو دور الدين في الدولة إلّا فيما خصّ دين الملك والتي حدّدها بالإسلام، فضلاً عن الهوامش اللامركزيّة التي رسّخها وفصل السلطات، فيما جاءت الدساتير اللاحقة منحازة لدين وقومية محدّدين (الإسلام والعروبة) الأمر الذي نزع أبرز سمتين للدولة الحديثة وهما العمومية والتجريد، وبالتالي انتفت الصيغة الدستوريّة التي تضع المواطنة والمساواة في مكانهما الصحيح، أي في قلب الدستور بوصفه أعلى القوانين وأسماها.

ولا يمكن صناعة دولة دون تحديد هويتها، كما لا يمكن اجترار وهم دولة اللون الواحد أو الأكثريّة العددية لدين أو إثنيّة، وفرض هذه المسائل باعتبارها هويّة الأغلبيّة، ولعل تجلّي فرض هويّة الأكثريّة في الدساتير كان العمل الأوضح الذي بات يرقى إلى درجة الحق المقدّس للقوم الأكثريّ في بلدٍ يعجّ بالإثنيات والثقافات والأديان، ما أبقى مسألة الأقلّيات الدينية والعرقيّة على قيد الحياة طالما أنها تخضع لشكلين من الذمّية، واحدة دينيّة وأخرى عرقيّة.

وثمة مسألة أخرى تزيد من اضطراب وقلق الهوية الوطنيّة وهي التعريفات التي تلحق بالجماعات الإثنية، ومن ذلك المثال الكردي السوري، إذ يوصفون على الدوام بأنهم جماعة تحمل مشاريع “فوق وطنيّة” أو عابرة للأوطان، في حين أن وصفها بالهويّة الفرعيّة يخفف من حدّة التشكيك بها وبانتماء الجماعات الإثنيّة على السواء، وعليه يكون الاحتكام إلى الصفة/الاصطلاح الأكثر واقعيّة والأخفّ تجييشاً أمراً بالغ الأهمية في التعريف بالجماعات الوطنية، ومن باب أَولى أن يصار إلى تعريف سوريا بأنّها دول الكل دون تفاضل أو تفاوت، وهي دولة السوريين الذين قد يحظون في المستقبل بالجنسيّة السوريّة بمعزل عن الدولة التي جاؤوا منها، وهي بذلك دولة الأمهات والزوجات اللاتي تمنحن حق الجنسيّة لأسرهن.

وتبدو مهمّة رسم ملامح هوية وطنيّة جديدة أولى المهام النظريّة التي تنتظر النخب السوريّة، دون أن تخضع المسألة للمساومات السياسيّة والإرضاءات، وإذا كان الجانب الروحيّ مهمّاً في رسم الهوية الجمعيّة وكذلك استعارة الرموز الوطنيّة السالفة والتغنّي بالآباء المؤسسين، فإن الأهم أن يُنظر إلى الهوية الوطنيّة على نحو قانونيّ ودستوريّ حديث. هويّة تساوي بين جميع المواطنين دون أن تغفل حقوق الجماعات، وترسم في الوقت ذاته التخوم بين حرية التعبير وكراهية وازدراء تلك الجماعات.

ليس في وسع واحدنا، مهما بلغت درجة التحقيب والبحث، أن يعثر على ما يدل على مرحلة سادت فيها هوية وطنية جامعة، مستقرّة وواضحة، في حين أنّ كل المراحل التاريخية منذ تشكّل الكيان السوري تشير إلى قلق مزمن عانته فكرة صناعة الهوية الوطنية من الدولة القُطريّة المؤقتة الباحثة عن اتحادات مع دول أخرى، إلى الدولة السلطانيّة المحدثة الحاليّة (النظام) والتي ترى في “التجانس” مصدر إلهام وبرنامج عمل.