لكل السوريين

الدين والسياسة

صالح مسلم

لم يكشف التاريخ البشري غير المكتوب والأبحاث الإنسانية عن وجود ديانات أو عبادات محددة، إلى حين استقرار البشرية كمجتمعات مستقرة وابتداء المجتمع والثورة النيوليتية (الزراعية) حيث ظهرت بعض مظاهر التقديس والبحث عن مصادر الحياة والخيرات واعتبرت بعضها مقدسة لدى المجتمعات، وصولاً إلى العصر السومري حيث استطاعت البشرية تدوين مذكراتها وخواطرها، وحيث تشكل عصر تشكل احتكار السلطة والثروة، والمرأة التي كانت تتميز بمكانة مقدسة فقدت تلك الفدسية لصالح الرجل الذي مثل احتكار السلطة ومن ثم الثروة.

العصر النيوليتي الذي سبق العصر السومري تميز بوفرة الغذاء والمساواة بين أفراد المجتمع من دون أي إستغلال أو إحتكار، ولهذا بقيت تلك الصورة التي عاشها المجتمع البشري في الذاكرة المجتمعية، وعندما بدأت اللامساواة والإستغلال بين المجتمعات والأفراد بدأت شخصيات مفكرة أو مصلحة تفكر في كيفية إعادة المجتمع إلى سابق عهدها أي إلى المعايير والعلاقات التي سادت فيما سبق أي إلى ماكان سائداً في العصر النيوليتي من خير وفير ومساواة بين البشر.

وهكذا ظهر الرسل والأنبياء والديانات التي دعت جميعها إلى المساواة والعدالة والوقوف إلى جانب المظلومين والمستضعفين والمتضررين من العلاقات السائدة في مجتمعاتهم. وجميعها دعت إلى إصلاح النفس والمجتمع ومكافحة الفساد واحتكارات السلطة والثروة. ولهذا يمكننا القول أن الديانات بأغلبها كانت ثورية في مواجهة الظلم والإستغلال تدافع عن الطبقات المسحوقة وتبحث عن حقوقها.

سلسلة أنبياء ورسل الديانات السماوية التي ابتدأت في عقر دار العصر السومري والحضارات المتفرعة منها في ميزوبوتاميا الدنيا والعليا والتي ابتدأت بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، سارت على الدرب نفسه أي الوقوف إلى جانب المستضعفين في وجه الإستغلال والظلم والإجحاف بحق المجتمع البشري، ولم تقف في يوم من الأيام إلى جانب الظلم والظالمين بحق المجتمعات، ولآ إلى جانب احتكارات السلطة والثروة في عهد الأنبياء والرسل. ولكن التابعين وتابعي التابعين الذين تلطخوا ببراثن احتكارات السطة والثروة أدخلوا التحريفات التي تخدم مصالحهم ومآربهم وعملوا بها بعيداً عن جوهر الأديان والمعتقدات الأصيلة التي تعمل من أجل خلاص البشرية وليس إستعبادها.

الديانات السماوية آمنت بالله جل جلاله في السموات العليا ووصلت تعاليمه وتوجيهاته على شكل آيات أو أقوال عن طريق وسيط، ولا شك أن ذلك الوسيط صادق ويحظى بثقة المجتمع أيضاً. ولكن ما هي ضمانة المصداقية لتابعي التابعين وأتباعهم من بعدهم ، وهذه هي الفجوة التي تسرب منها أصحاب احتكارات السلطة والثروة. فنشبت النزاعات والخلافات لأن كل فئة ذهبت إلى التأويل والتفسير الذي يلبي أطماعها وتطلعها في التحكم بالمجتمع من خلال الدين، وهنا تم إستخدام الدين وسيلة للسياسة، حيث التظاهر بالتمسك بالتعاليم الدينية بعد تأويلها، للتحكم بالمجتمع وثرواته لصالح فرد أو أسرة أو حزب أو فئة ما. وهذا الشرخ نجده في كل الأديان حيث المذاهب والطرق والطوائف.. إلخ.

في اليهودية هناك الأشكيناز والسفرديم وكل منها لها طوائفها ومذاهبها، وفي المسيحية هناك الأورثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، ولكل منها طوائفها وكنائسها، وفي الإسلام هناك السنة والشيعة وطرقها ومذاهبها ، ولكل منها طوائفها وفروعها عبر التاريخ بعضها حكمت وسادت في العصور المختلفة عبر التاريخ ولا زلنا نرى آثارها بل وإستخداماتها إلى يومنا الراهن إلى درجة أن بعضها أخذت نهجاً معاكساً للتطور البشري وأصبحت تشكل خطراً على البشرية جمعاء، وباتت البشرية تبحث عن وسائل تجنب مخاطر هكذا توجهات تؤدي إلى تدمير البشرية.

قبل ظهور الديانات كانت هناك مجتمعات بشرية تعايشت معاً أو بشكل متجاور في العصر النيوليتي، وكانت قوانينها وأحكامها تنحصر في المعايير الأخلاقية التي توارثتها عبر الأجيال وتعرفت على ما هو لصالح المجتمع وما هو الذي يلحق الضرر بالمجتمعات أي “ضوابط أخلاقية” غير مكتوبة ولكن يعرفها الجميع ويلتزم بها. وهكذا تحققت العدالة والمساواة في العصر النيوليتي إلى ما قبل العصر السومري الذي تراجعت فيه الإلتزام بتلك المعايير والضوابط، وأصبحت هناك حاجة إلى المصلحين والحكماء ثم الرسل والأنبياء لإعادة البشرية إلى مسارها السليم، وهي استطاعت ذلك بشكل محدود إلى أن تلوثت تلك التوجهات بلوثة إحتكارات السلطة والثروة فازدادت الأمور تعقيداً وباتت المجتمعات تائهة بعد استخدام الدين أداة للسياسة. رغم أن بعض المجتمعات استطاعت فصل الدين عن شؤون الدنيا، ولكنها لم تتخلص من هذه العقدة إلى الآن سواء في أوطانها أو فيما جاورها. ويبقى الحل في العودة إلى الأخلاق البشرية التي تشمل الجميع قبل الديانات.